تأملات في الحب والنزوح

15 يوليو 2024
تيسير بركات/ فلسطين
+ الخط -

كنت أنظر للأشياء حولي ببلادةٍ تامة، أي شيء سأحمله معي الآن، وأية دقائق تكفي لأقرّر وأختار الأهم من بين كل ما اقتنيته من أجهزة أو لوحات، حتى جهاز اللابتوب الذي حمل ذاكرة زواجي وإنجابي، وأهم أعمالي الفنية ومشاريع الثقافة وغيره، تركته ومضيت. نظرتُ نظرة أخيرة في البيت الذي لا ينقصه شيء وتركته على حاله، حملت لزوجي وأطفالي أحذيتهم التي لم يستطيعوا من هول القصف وشدته أن يلبسوها، ونزلت إلى بيت الدرج الذي كان الجميع يحتمون به من أهل العمارة، وهناك رأيت أناساً غرباء، ربما كانوا من المارة بشارعنا لحظة وقوع القصف الذي لم يكن صاروخاً عادياً. كانت أحزمة نارية وانفجارات متتالية جعلتنا غير قادرين على التفكير، ولا أخذ القرار هل نبقى ببيت الدرج أم نترك المكان ونخرج، لكن إلى أين؟ نحن في منطقة مركز الاستهدافات بحي الرمال شارع الجامعة بالقرب من دوار الصناعة، كيف سنقطع الطريق إلى أي شارع، وهل ستقودنا هذه الطرق إلى النجاة في مدينة وقعت مرة واحدة في قبضة الموت والدمار!

يعجبني لون السماء جداً لكنني غير قادرة على استشعار جمالها الآن، وقد عبرنا كل ما لم نتخيل أننا سنستطيع مواجهته، قهرنا الألم وعدنا أحياء بلا قلوب أو حتى أعصاب حسية، لا نعرف ما هي رسالتنا الآن سوى الصمود في وجه هذا الموت أكثر، وحده السأم ما سيكون سبباً في انسحابنا من هذه الحياة.

لا أعرف كم هو عمري الآن، أنا فعلاً نسيت وحدث ذلك بعد أن أردت أن أنسى، ألتقط من بين السنين بعض الذكريات، أكتفي بالقليل منها لأن كثيرها يذكرني بحجم ما خسرت، أمشي لا علاقة لي بالوقت، أمرره أقتله أعده أنساه أحمله على ظهري، أتعب منه وألقيه بعيداً كي أتنفس، أقف أمامه كزائر سينما سيرحل عما قليل، منذ ولدت لم أتعلق بالزمن، تركته يبكي ويضحك خلفي كيفما شاء وكلما لوح لي بيده منادياً، مررتُ كأنه لا يخصني البتة، أغاظته تلك اللامبالاة، همّ  بالانتقام وركض أمامي مسرعاً تجاوزني حتى صرت أحمل خمسين مليون سنة معي، ابتسم ابتسامته الشامتة، لم يعطني فرصة لأفكر دون ثقله، تحديته وهزمته، صرخ واشتكى متظلماً، قلت لا لوم عليّ فقد ضيعني وضيعته!

ألتقط من بين السنين، بعض الذكريات، أكتفي بالقليل منها لأن كثيرها يذكرني بحجم ما خسرت

في صباح الغد، سيذهب الجائعون للبحث عن قوت يومهم، وأنا مثل طفلة فقدت اليد التي تدلها أين الطريق سأبقى على مفترق الأبد هناك أنتظر يداً بغير قصد أفلتت يدي في الزحام، وأنتظر، أنتظرها بكل ما في الكون من عناد ولهفة!

في المقهى، كان صوت الموتور يعلو فوق صوت حوارنا، على تلك الطاولة التي جاءت بجوار النافذة الوحيدة التي تبعد عن الدخان والتلوث الصاعد من السوق باتجاه سمائنا وهوائنا وأفكارنا ومستقبلنا، لكنها تبقى النافذة الأكثر نقاء، صوت الموتور لا يتوقف ولا يدعنا نعرف كيف نتحدث، لكن تلك الكافتيريا كانت أفضل الخيارات في المدينة كلها، ننسى أمر الموتور ونفرح لأن هواء نقياً تسرب من النافذة أخيراً نحو صدورنا التي امتلأت عبر أكثر من مئتي يوم دخاناً، وغباراً، وموتاً، وبارود!

فنجان قهوة وكأس أعشاب تلك فرصتنا للانتصار على الوقت، نترك كل شيء ولا نفكر سوى بالفراغ، بهذا الذي لا يسمى بيننا، وقت ومسافة لم نمشها وصوت يجيء من بعيد يقول للروح، مهلاً فالخطوة هنا تساوي عمراً، لحظة وسؤال، والروح كالنورس تهيم فوق سطح الأسئلة!

في كل مرة كان يمتلئ قلبي فيها بالحزن والخذلان، كنت أذهب للبحر كي أفرغ ما في قلبي وأعود للحياة بروح منطلقة وبهية، لكنهم أغلقوا باب البحر الآن، كيف سنتخفف من كل هذا الوجع الذي يزحف في دمنا، كيف سنغسل أرواحنا من كل ما شابها من ألم وحزن وعجز ووجع، يا رب المستضعفين يا الله.. متعبون جداً نحن، وما من باب سوى بابك الآن!

هذه المرة لم تكن كأي مرة شاهدت فيها البحر، كانت صورته مروعة، بحر بلا أسماك أو باعة وصيادين، شاطئ بلا أطفال، تماماً كهذا الربيع الذي فقد وروده، كيف عبرت بنا المأساة من شتاء إلى ربيع ونحن لم نع ما حل بنا بعد؟ كنا نمرر الوقت فقط كي نظل على قيد الحياة، وأي حياة.. يمر الناس قرب البحر يجرون همومهم، تشعر بثقل مشيتهم، تغوص أقدامهم في رماله تماماً مثلما غاصت أحلامهم في السراب، أي وقت نعيشه الآن تماماً كأننا عائدون من القيامة للقيامة مرة أخرى!

حين لا يكون لدي شيء أفعله.. أتلهى بأي شيء، مرة أقف على شباكي المفتوح، لا أعرف لماذا ما زال مفتوحاً ولم يعد خلف هذه الحياة ما يغريني! ومرة أفتح صنبور الذكريات والأحلام الصغيرة الدافئة، أحاول غسل روحي من كل هذا الجفاف الذي يعتريها، وحين يتسرب الملل مجدداً، وأرفع الغطاء عن جسدي وأقفز من هذا السرير علني أجد أغنية تسحبني لفضاء الرقص من جديد! ما الذي يمنعني أن أرقص الآن، حباً، وجعاً، حزناً، اشتهاء.

أشد اللحاف وأختبئ تحته، لم أكن أشعر بالبرد، فقط أردت أن يحتويني. أنام، لا لأني أشعر بالنعاس، بل أحاول أن أوقف بعض الأفكار برأسي. أصحو، لست مرتبكة، ولكن ينقصني رؤيتك.. أكتب لك، لا أريد علاقة غرامية، ولكني أفتقد الونس.. أحب كل ما فيك، ليس تعلقاً، ولكني أشجع نفسي على الحياة! دونك أيها الحب كيف سأعرف للرضا طريقي!

أريد أن أبكي فقط لكني لا أسمح لنفسي بذلك، فالأطفال حولي أغلب الأوقات. كيف أهرب منهم ومن نظرات الجيران وأصدقاء العمل والمارة في الطرقات، أريد أن أبكي، يصرخ داخلي بقوة، بينما أحاول أن أغير هيأتي كلما، خرجت كيلا يلحظ رغبتي في البكاء أحد، ولا حتى سائق الشاحنة التي نجلس في مقعدها الأمامي مرغمين من قلة البدائل، ذات مرة جلست إلى جواري امرأة فعلت ذلك بكل ما فيها من سخط وحزن، ظلت تبكي حتى علا صوت نشيجها، فبكيت معها كل البكاء الذي خبأته وتراكم، تركته يهطل كمطر يعبر صحراء روحي من جديد!


■ ■ ■


الرجل الذي أحببت كان يكتنز الحب والمعنى طوال الوقت حتى بات غنياً بي، زاخراً قلبه بلذة الوصول، أما أنا يا رب ما زلت هنا أتسول منك بعض الطمأنينة!

كنت أود لو أنك بقيت، لو أن رأسي ظلت مسنودة إلى كتفك أكثر، كنت أحتاج أن أتنفس قربك واشتم رائحتك أكثر، أن أنظر إلى ذلك المعنى الذي وجدته في حزني، وأن تنظر إلى روحي ترفرف في سمائك، ماذا تفيد "لو"، وأنت الآن بعيداً كمنفى، وأنا كطفلة فقدت اليد التي تمسك بها كي لا تضيع في أروقة اليأس من جديد!

بين أربعة جدران وذراعين تتوسد أحلامي، انتظرتك، لا أريد أن أعيش موتك الآن، فقد سبق وقد دفنتك، أقمت عليك الصلاة ودموعاً كثيرة مالحة، لا تمت مرتين فليس لي من قلب يكفي لكل هذا الحزن، لا أريد أن أرى مرة أخرى هذه الطريق تتسع بيننا من جديد، حتى لا تعود توصل إليك البتة..

لا أعرف إن كان ما يحصل معي صدفة أم أنه قدر رتب بعناية فائقة، أن ألتقيك مؤخراً وأن يحلق طيف روحك الباحثة عن الحقيقة والحياة في سماء وقتي ولحظاتي، اجتماع كل تلك الخصائص فيك لم يدع مجالات لتصديق أنها صدفة، كنت أنت البهي الحضور، مرهف الحس، صاحب الحدس الذي لا يخطئ، ذو بصيرة نافذة ولماحة، عقل المهندس الذي يجيد ترتيب كل شيء، وروح الطبيب الذي لا يمل من تقديم لو بعض المواساة أو الدواء لكل المجروحين من قسوة هذا العالم وظلمه، كلماتك، نظراتك، حتى حيرتك كانت هادفة وسامية، كلها كانت تميز هذه الروح وتدفع بها نحو صورة أكثر عمقاً واتزاناً، في عالم مليء بالسطحية والفراغ، ما أجمل أن ألتقيك الآن، ما أجمل انتباهك لوجودي بهذا العالم وأنت تراعي أن يكبر هذا الأمل داخلي بالحياة. ولأكون عادلة هنا أنا ممتنة لوجودك وأثره في كل ذلك، ممتنة لاستطاعتك كسر وحدتي ولو بسؤال صغير يطل صباحاً أو مساء.

لي ما أريد، ولن يمنعني من ذلك أحد، أن أنظر إلى صورتك طويلاً إلى أن تشبع روحي من هذا الحب الذي يسكن نظرتك، أن أغفو وأنا أتخيل ذراعيك تحوطني بكل الدفء الذي في الأرض، تشدني نحو صدرك بقوة، ثم تترك هذه القوة تنهار بيننا من جديد حتى تعود طفلاً، تختبئ بي واختبئ بك، محاولين محو ما علق في أرواحنا من تعب عبر سنوات أعمارنا الماضية، تعال إليّ طوقني بكل ما فيك من لهفة وجنون، تعال إليّ، سيسحبنا هذا السحر الذي لا نفهمه نحو حياة لا نجدها إلا حين نكون معاً، لي ما أريد، وكل الذي أريد أن تعيش كما تحب، وأن تذهب إلى حيث شئت، فأنت في كل حال معي مهما ابتعدت..


* كاتبة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون