اليمين المتطرّف في فرنسا: تهديدات للثقافة بالجملة

30 يونيو 2024
من "مسجد باريس"، 30 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2020 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تقدم حزب "التجمع الوطني" في فرنسا يثير مخاوف بشأن مستقبل الثقافة العربية والتنوع الثقافي، نظرًا لاهتمام الحزب المحدود بالقطاع الثقافي وتمويل الجمعيات الثقافية.
- يُخشى من أن يؤدي فوز الحزب إلى قطع التمويل عن الجمعيات الثقافية والأنشطة الدينية، مع تبني سياسات تعزز "الأفضلية الوطنية" وتقلل من قيمة الثقافات الأخرى.
- الثقافة العربية لها تأثير كبير ومساهمة في الهوية الفرنسية، مما يجعل الدفاع عن التنوع الثقافي ومقاومة أي محاولات لتقويض هذا التراث أمرًا ضروريًا للمجتمع الفرنسي.

بعد التقدّم الكاسح الذي حقّقه أقصى اليمين في فرنسا، تحت راية حزب "التجمّع الوطني"، بقيادة جوردان برديلا الذي يخوض الانتخابات التشريعية المقرّرة اليوم، بات من العاجل التساؤل عن مآلات الثقافة العربيّة في هذا البلد، بل وعن وضع الثقافة عموماً في البرامج السياسية، لا سيما أنّ هذا الحزب، مثل بقية الأطياف الأُخرى، لا يُولي أدنى اهتمام للقطاع الثقافي الوطني، ناهيك عن الثقافات الأجنبية، مع أنّها طالما مثّلت رافداً فعليّاً للهوية الفرنسية.

يمكن لفوز هذا الحزب أن يحمل في طيّاته مجموعة من الأخطار الحقيقية؛ أوّلها ما يتعلّق بتمويل الجمعيات الثقافية الخاضعة لقانون 1905، الذي يسمح لها بممارسة أي نشاط، شريطة احترام المبادئ الجمهورية؛ علماً أنّ هذه الجمعيات تتوفّر على هامش لا بأس به من الحرية يُمكِّنها، إلى حدّ ما، من تثمين العناصر الثقافية الأجنبية، مثل تعليم اللغة العربية، وعقد ورش خطّ، فضلاً عن إقامة عروض رقص وغناء، وحفلات تذوُّق للأطباق، ومعارض ملابس، وغيرها من مظاهر الاختلاف التي لم تمانع فرنسا في تثمينها واستعراضها ضمن أطر واسعة نسبيّاً.

ولا شكّ أنّ المجالس البلدية، وهي التي تُوفّر التمويل الرئيس لهذه التظاهرات، إن هي خضعت لهذا الحزب، فإنّها ستقطع مثل هذه المساعدات تحت مسمّى "الأفضلية الوطنية"، بل وقد تحاربها، فقط لأنها تفوح برائحة "الخارج" و"الأجنبي المغاير".

مفاهيم تؤول إلى تقديس الثقافة الأمّ والهوية الوطنية 

ويطاول الخطر الثاني الجمعيات الثقافية التي تمارس أنشطتها في المساجد والمُصلّيات، وهي هيئات قانونية لا غبار عليها، إلّا أنّها تُركّز في برامجها على المحتوى الثقافي الديني وتوفّر، إلى جانب تعليم اللغة العربية، دروساً في العقائد وتحفيظ القرآن وقواعد الفقه. ولا شكّ أنّ اليمين، إن وصل إلى سدّة الحكم، سيربط هذه الأنشطة بهوسه من الإسلام والمسلمين وسيضخّمها، جاعِلاً منها خطراً يتهدّد الجمهورية والهوية، في حين أنّ حريّة الضمير مكفولة بالدستور، وأنّ مثل هذه المضامين العقدية لا تُشكّل أدنى خطر لأنّ مقرّها الوجدان. كما تتوفّر كلُّ الديانات الأُخرى، كاليهودية والمسيحية والبوذية، على مراكز للتعليم الديني تُشرف عليها جمعياتٌ بعضها يتمتّع بتمويل الدولة الفرنسية ذاتها. إلّا أنّ ملاحقة مثل هذه الهيئات سيكون تحت شعار محاربة التطرّف والانعزال، وما إلى ذلك من الأسماء التمويهية.

ولعلّ الخطر الأدقّ يكمن في ازدراء الثقافة العربية، عبر تنميطها وحصرها في أطر سلبية مشوَّهة، كالفولكلور، والملابس الفضفاضة، وبعض الأطباق (عموماً الكسكسي)، مع حَجب كنوزها الفعلية في الآداب والسينما والفلسفة والمسرح؛ ذلك أنّ اليمين المتطرّف قادر على ربطها بمظاهر مجتزأة، تُسهّل له بعد ذلك مكافحتها، وقطع المساعدات عنها، عبر وضعها في خانة "السخيف" و"المتخلّف"، وهي عين استراتيجيته التي يوظّفها مع الفنون العصرية التي يختزلها في أشكال غرائبية.

ومع أنّ كلمة "ثقافة" لم ترِد إلّا مرّة واحدة في برنامج برديلا الانتخابي، فإنّ خطابه السياسي يستنجد بمفاهيم غامضة تؤول إلى تقديس الثقافة-الأم، والهوية الوطنية التي تستند إليها. لذلك، من المشروع أن نتساءل هنا عن وجود مثل هذه "الثقافة الوطنيّة" أصلاً؟ فإذا ما استثنينا اللسان الفرنسي الذي يُعبّر عن هذه الثقافة، وهو لسان مشترك بين دول أُخرى مثل بلجيكا وكندا، وحتى بعض دول أفريقيا، ندرك أنّ "المحتوى الذهني" هو نتاج العديد من المؤثّرات والتقاليد التي وفدت إلى فرنسا، على امتداد تاريخها الطويل، من مناطق أوروبا وآسيا التي يستحيل اليوم حصرها وتحديدها. فتاريخ الثقافة في فرنسا، مثل أي تاريخ غيره، وليد تفاعلات ذاتية وخارجية يتقاطع فيها المحلّي بالأجنبي لينتج مضموناً ما، هويته الوحيدة في أصالته الذاتية، لا في انتمائه إلى رقعة جغرافية لها حدود ملموسة.

ثم أليست الثقافة الفرنسية هي التي سافرت بذاتها عبر الماضي القريب للبحث عن هذه الروافد في الخارج؟ ألم يكن الاستشراق في جوهره مساراً فكريّاً هدفَ وقتها إلى السيطرة العملية على الآخر (المسلم العربي) ومحاصرة كلّ إنتاجه الحضاري، المادّي منه والذهني، من أجل تيسير الهيمنة عليه. وكما دلّل سمير أمين في كتاباته على أنّ الازدهار الاقتصادي الفرنسي مَدين للمستعمرات السابقة، يمكننا قياساً على تحاليله التأكيد على أنّ الثقافة الوطنية التي يتبجّح اليمين بثرائها، مَدينة هي الأُخرى لكنوز الوطن العربي وموروثاته الثقافية التي مثّلت موضوع الاستشراق طيلة القرنين الماضيين، ومن ثمّ مُورست عليها كلّ آليات الاستكشاف... والنهب.

نسائل مثلاً: ماذا يبقى من "متحف اللوفر"، جوهرة المؤسّسات الثقافية في باريس، إذا أخليناه من الثروات والتحف المنهوبة من مصر والعراق والشرق الأوسط والأقصى والمغرب العربي وبلدان أفريقيا؟ ألا يعود غنى هذا المتحف بالأساس إلى ما فيه من الأجنحة الأجنبية، وما تتضمّنه من الكنوز المُستجلَبَة من بعيد؟ أليس ما تأتّى من الذاكرة الفرنسية، التي تُستحضر باعتبارها المرجعية الأساسية في النسيج الأيديولوجي اليميني، هو نتيجة تفاعل واسع بين عناصر متداخلة من الإمبراطوريات البيزنطية والرومانية والفرنجية، ضمن صراعات العصور الوسطى التي لم تنجل حدودُها إلا مؤخّراً؟

ولا داعي، هنا، إلى العودة لمبدأ "الاستثناء الثقافي الفرنسي" الذي طالما استدعاه اليمين شعاراً، واعتمده خلفيّة أيديولوجية يُحرّك بها الجماهير، في حين أنّه لا يعدو أن يكون مجرّد راسب من خطابات التفوّق الفرنسي وما ولّدته من ممارسات استعمارية واستعلائية، استُنقصت من خلالها ثقافات الآخر واعتُبرت خارج التاريخ. كما أنّه مبدأ جوهراني يقوم بشكل غير واعٍ على المركزية الأوروبية التي تسعى إلى ربط ما في العالم من حضارات بها كأصل ما ورائي.

ولذلك، فإنّ خطر اليمين المتطرّف على الثقافة العربيّة كخطره على ثقافة فرنسا ذاتها، وعلى مجتمعها وسياستها: ضيق أفقٍ، وانغلاق على الذات، ورفض للمغايرة والاختلاف. ولا يمكن للفنون والآداب أن تذعن لمثل هذا التهديد، لأنّها بطبيعتها كاسرة لكل هويّة مغلقة، متجاوزة الحدود الموهومة التي يستميت الحزب في رسمها. ولن تقدر مثل هذه الخطابات على خنق إرثٍ يعود إليه ملايين العرب الفرنسيّين بمبدعيهم وفنّانيهم لأنها حيّة في وجدانهم وأجسادهم، وهي مكوِّن جوهري في اللغة والخيال الجمعي. لا يمكن لأي حزب سياسي مهما قويت شوكته أن يمحو آثار العروبة التي انطوت في الشخصية الجماعية.

ومع ذلك، جدير بالملاحظين أن يراقبوا من كثب ما قد يحوكه هذا الحزب من دسائس ضدّ الثقافة باسم الهويّة، وأحياناً باسم "أصالة" مزعومة، يجري تضخيمها فقط من أجل الإزراء بالثقافات الأخرى لتضييق الخناق عليها. مهمّة المثقّف في أيامنا الحسّاسة تدقيق النظر في هذا الخطاب حتى يمنع، بالكلمة النافذة، كلّ انطواءٍ هُوياتي لن تعاني منه الثقافة فحسب، بل المجتمع الفرنسي برمّته، الذي سيكون أوّل ضحايا ضمور المغايرة: انكفاءً على الذات وتكراراً لمقولاتها التي عفا عليها الزمن.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون