"الهبوط إلى الأبدية بحبل" لفاضل العزاوي... البدايات العائدة

10 نوفمبر 2024
لسنا أمام قصيدة، وإن كنّا غير بعيدين عنها
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- مجموعة قصصية متميزة: "الهبوط إلى الأبدية بحبل" لفاضل العزاوي تُظهر موهبته في السرد القصصي، حيث يُعرف كشاعر في الشعر الحديث، وتُعتبر بداية قوية له في عالم القصة.
- أسلوب سردي فريد: يمزج العزاوي بين الشعر والقص، ويخلق عوالم خيالية تتحدى الواقع، كما في "هو" و"دائرة الصفر"، حيث يبرز مفهوم اللاحدث والانتظار.
- استعارات وأساطير معاصرة: يستخدم العزاوي استعارات حديثة، كما في "البحث عن الحفيظ"، ويعيد صياغة قصص تاريخية بلمسة معاصرة، مما يُظهر قدرته على بناء عوالم قصصية غنية.

"الهبوط إلى الأبدية بحبل" عنوانٌ لافت لمجموعة فاضل العزاوي القصصية، الصادرة عن "منشورات الجمل" عام 2022. تلك هي المرّة الثانية التي أقرأ فيها لعزاوي قصّاصاً. كنت أعرفه شاعراً في الأساس، شاعراً له قصيدته في منعرجات الشعر الحديث وفي أطواره.

قد أكون لذلك فوجئت به روائياً، لعلّ "آخر الملائكة" بدت لي حدثاً في الرواية العربية، لم أكن أتوقّعه، فالأرجح أنّ أعمال الشعراء الروائية، كما أتوجّس منها، أقرب إلى الجملة الشعرية أو الإنشاء الشعري. في ذلك نحن أمام لعب على الشعر، ولعب على الرواية. بل نحن أمام ما ينتفي فيه الاثنان، أو يتحوّلان إلى ادّعاء وإلى تمرين أسلوبي. لم تكن "آخر الملائكة" من هذا الصنف، كانت بالعكس عملاً أصيلاً.

اليوم أعاود قراءة العزاوي القصّاص في بداياته القصصية "الهبوط الى الأبدية بحبل". مجموعة مضى على أعمالها فوق الخمسين سنة. إنّها من البدايات، لكنّها أيضاً البدايات التي لا تنقصها الموهبة والقدرة، كما لا ينقصها المدى والفضاء. إنّها أعمال أُولى، لكنّها واعدة، بل أكثر من ذلك متينة ومصقولة وقادرة.

إذا بدأنا من الأقصوصة الأُولى "هو" (1972)، سنجد أنّنا أمام اللاحدث الذي يبقى سؤالاً، ويبقى انتظاراً، قوّتُه بل وحدثيّته هما هنا. هناك الرجُل الذي يقصد كلّ الأماكن الذي يرتادها، وينتظرها أحياناً ساعات، لكنّه لا يصادفها في أيّ مرّة. هذا الفوات لا يحدث صدفةً فقط، إنّه تقريباً حدث الأقصوصة، والأقصوصة هي في انتفائها. سؤالها هو في ذلك الانتفاء، إنّنا هكذا لسنا أمام قصيدة، وإن كنّا غير بعيدين عنها. هذا الانتفاء والسلب هما بالتأكيد الوجود ذاته، العدم هنا هو الصفحة المقابلة، والنفي المعادي المتكرّر هو سؤاله.

روايته "آخر الملائكة" بدت لي حدثاً في الرواية العربية

في المقابل، لا نستغرب في أقصوصة تالية عنوانها "دائرة الصفر" أن نعثر على الموتى بين الأحياء، إنّهم الموتى الذين يعودون إلى الحياة، بل يغزونها. إنّ لهم وجوداً أكبر وأعمّ، بل إنّ الأحياء هُم بالنسبة للموتى الغائبون الحقيقيون. إنّهم هنا لوقت قصير وعابر. الحياة في حقيقتها، في وجودها الفعلي، هي للأموات. هكذا نفهم كيف يعود هؤلاء إلى الحياة، وكيف يقومون باحتلالها وغزوها. ثمّة حرب ستقع بين الطرفين، بل هي حرب واقعة أصلاً، ليست الأرض أو الحياة سوى إرث الموتى.

يمكننا من هاتين الأقصوصتين أن نتملّى فنّ فاضل العزاوي القصصي، قد يخطر لقارئٍ أنّ هذا اللعب بالمخيّلة، أنّ هذه الغرابة هي من قبيل الشعر. لا ننفي ذلك، نحن بالتأكيد أمام ما يشبه الشعر، لكنّنا مع ذلك لسنا أمام قصائد. لسنا أمام غناء من أيّ نوع، ولا أمام إنشاء من أيّ نمط. الجملة الشعرية، جرياً على الجملة السياسية، ليست قائمة هنا. إنّنا أمام استعارات قد تبني أساطير مقابلة، أساطير في انتفائها وسلبها وعدمها. قد نتذكّر هنا الحكاية الكفكاوية، حين نقرأ في "البحث عن الحفيظ" قصّة الكون. نعثر على آدم وحواء، لكنّه آدم المعاصر، بل آدم عراقي. إنه أيضاً مع حوائه التي تظلّ صلته بها، كما هو كلّ شيء، احتمالية متردّدة، تَثبت في حين تنفي وتقرّر في حين لا تؤكّد. هكذا نجد أيضاً استعارة لتأسيس الكون، ليس فيها الكون نفسه، وليس فيها بداية من أيّ نوع.

"البحث عن حفيظ" ليست فقط أقصوصة، إنّها رواية صغيرة. كذلك هو الأمر مع "كانت الطائرات تحلّق عالياً". في العملين ما يمكن اعتباره صورة حديثة. عمانوئيل يصلب نفسه، هذا الفعل لا يعيد فقط حكاية الصلب، بل يجعلها بنت اليوم، ويبني عليها أسطورته أو استعارته الراهنة.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون