المُعتمَد الشعري

10 أكتوبر 2022
علي عمر أرميص/ ليبيا
+ الخط -

أفضى ظهورُ الشعر الحرّ، بجماليته الجديدة، إلى تداول النقد العربي الحديث مفهوماً طريفاً يخصُّ القصيدة التقليدية، هو "الشعر العمودي" ويقابلُه "الشعر الحر".

ويَفترض تداولُ مفهوم "الشعر العمودي" تعريفيًّا وقياسيًّا وجودَ أشكال أُخرى للقصيدة العربية مثل "الشعر الأُفقي"، أو "الشعر اللّولبي"، أو غيرهما من التسميات التي يُمكن ابتكارُها، دون أن يكون لها بالضرورة تحقُّقٌ في المنجز الشعري العربي، وإنْ كان لا شيء يعوق احتمال وجودِها، ولعلّ الشذرة والهايكو مثالان يَدعمان هذا الطرح، ولو أنهما وافدان.

ولا يخفى أن مفهوم "عمود الشعر" سكَّه أبو علي المرزوقي، شارحُ "ديوان الحماسة" لأبي تمام، في استقرائه للقصيدة العربية التقليدية، لمّا استخلص أن الشعراء العرب القُدامى "كانوا يُحاولون شرف المعنى وصحَّتَه، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف - ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثُرتْ سوائر الأمثال، وشواردُ الأبيات - والمُقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النّظم والتئامها على تخيُّرٍ من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدَّة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرةَ بينهما - فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكلّ باب منها معيار".

كتابة تؤسِّس إبداعيًّا لِما يَكشِف النقد عن مُقوّماته لاحقًا

لقد ورد في مقدمة المرزوقي الشهيرة تلك مفهومُ "عمود الشعر" أكثر من مرّة، كقوله "ثم سألتني... عن قواعد الشعر"، أو قوله "فهذه الخِصال عمود الشعر عند العرب". وفُهِم لدى بعضِهم بصفته هيكلاً للقصيدة وأساساً لها، وأنْ لا شعرية تتحقَّق إلا باقتفاء تلك المعايير، لتكون القصيدة عربية، لذلك كان للمفهوم أكثر من تأويل، نجمتْ عنه إسقاطاتٌ حادَت به عن المُراد بالتسمية.

الأكيد أن ما رصده المرزوقي هو مميزات القصيدة العربية القديمة، التي لها معاييرُها المُهيمنة التي تجعل منها قصيدةً، وفق الذوق وأعراف الكتابة إلى حدود زمانه، وقبل أن ينعطف بها أبو تمام في مَسِير آخَر، خالَف تقاليد الأخيرة في مَناحٍ عديدة، دون أن ينقلب عليها.

ويتهيّأ لي أن المرزوقي قد رام باستعراضه "عمودَ الشعر" أن يُقدِّمَ المُعتمَد (Canon) الشعريَّ العربي، بصفته الجامع المُعتَبر المُمكنَ اقتفاؤه في الإبداع الشعري وفق النموذج العربي، بعدما استخلص من مجموع الشعر العربي المتوافر بين يديه خصائصه المتنوّعة التي استطاعت تخطّي الأزمنة والمسافات، لتصلَ إلى القارئ العربي، على عهد المرزوقي، في إهاب شعريّ متميِّز اسْتنَّه أبو تمام، ودشَّن به تجربة شعرية لافتة، لم تقطع مع ماضي القصيدة العربية، بل أطلقَتها في أفق جديد.

والواضح أن النقد العربي الحديث في تلقِّيه لفكرة "العمود"، وتأويلِه إيّاها، جعلَها تُضمِر الثّباتَ في اتجاه واحدٍ محدود، وحركةً مناقضة لطبيعة الكتابة الشعرية التي سِمتُها التنوُّع والاختلاف والإتيان بما لم يتقدَّم، لأنّها هي التي تؤسِّس إبداعيًّا لِما يَكشِف النقد عن مُقوّماته لاحقًا، بدليل أن لا نقد سابق على اقتراح مثال أو نموذج إبداعي، بل هو يمضي في هدي الإبداع، لذلك لا غرابة أن يحتجّ الشعر بشدَّة على الفهم القاصر لفكرة العمود، التي جعلت الكتابة قوالب، وأنْ ينتصر لمفهوم الجذمورية Rhizome بصفتها ميزة فارقة، بما تتّسم به من التوسُّع أفقيًّا، والبروز في حيّز غير متوقَّع، لتأتي بالجديد والجِدَّة.

بوعي نقديّ لافت، يُقدِّمُ النصُّ التأسيسي لمفهوم "عمود الشعر" عند المرزوقي ما "يُتبيَّن [به] ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب، ليتميَّز تليدُ الصنعة من الطريف، وقديمُ نظام القريض من الحديث". ليكونَ قصدُه هو التعريف بالمُعتَمَد الشعري العربي - ونحن نستعمِل المفهوم النقدي المعاصر- كي يعي به الشاعر العربي، أثناء صناعته لقصيدته، فيختار وهو يحرِّر نصوصه موقعه على خريطة الإبداع، إما أن يصطفّ مع من يلتزمون بمعايير اعتمدها القدماء، وإما أن يُؤسِّس لجمالية جديدة قد تصير مُعتمَدةً من قبل آخرين لاحقًا، فتكون مُعتمَدًا شعريًّا جديدًا.  


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون