استمع إلى الملخص
- تناولت جلسات اليوم الأول أهمية الأرشفة والحفريات الأثرية في كتابة تاريخ لبنان القديم والوسيط، وتم التطرق إلى إشكاليات المنهج والأرشيف والسرديات الوطنية.
- خلال اليوم الثاني، تمت مناقشة التأريخ العسكري، تطور تعليم التاريخ، وأهمية الأرشيف العثماني، مع التأكيد على الانتعاش في التأليف والأبحاث الواعدة لمستقبل تاريخي يعكس وحدة الشعب اللبناني.
في كلمتِه الافتتاحية لـ"المؤتمر السنوي للدراسات التاريخية" الذي يُنظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وانعقدت أعمالُ دورته العاشرة يومَي الجمعة والسبت الماضيَين في فندق "جيفنور روتانا" ببيروت، تحت عنوان "الكتابة التاريخية في لبنان في القرن العشرين الطويل (1898 - 2023): التطوّرات والآفاق"، خلُص الباحث في التاريخ الثقافي والاجتماعي خالد زيادة، مُدير فرع "المركز العربي" ببيروت، إلى أنّ "صياغة كتاب تاريخ مُوحَّد للبنان قد أخفقَت، لأنّ النزاع لم يعُد على هويّة لبنان، وإنّما الصراع على حصّة كلّ طائفة من التاريخ".
وتلا زيادة في الحديث، الباحثُ سيمون عبد المسيح، مُنسِّق المؤتمر، الذي اعتبر أنّ "هذه الدورة تستجيب لدعوات إعادة مراجعة الإنتاج التاريخي من زاوية المعالجة التحليلية النقدية". وأعقبت ذلك كلمة للباحث والمؤرّخ المغربي عبد الرحيم بنحادة، رئيس تحرير دوريّة "أسطور" التي تصدر عن "المركز العربي" تحدّث فيها عن العناية التي أولتها الدورية لنشر الأبحاث التاريخية وترويجها وعن الندوات الدوريّة التي تعقدها.
تضمّن اليوم الأول من المؤتمر ثلاث جلسات، حملت الأولى عنوان "الأرشفة والتأريخ للمرحلتين القديمة والوسيطة" (ترأّسها عبد الرؤوف سنّو)، وقدّم فيها الباحث عماد غرلي ورقة بعنوان "مساهمة الحفريات الأثرية في كتابة تاريخ لبنان القديم" تحدّث فيها عن "ضرورة تعزيز الوعي التراثي من خلال برامج تعليمية ومبادرات توعوية عامة"، لافتاً إلى أنّ "تطوّر الوعي بالحفريات في لبنان أسهم في تعميق الرؤى المنهجية للحضارات القديمة المؤثّرة في جغرافيته بعيداً عن الأساطير".
بحوثٌ حول إشكاليّات المنهج والأرشيف والسرديّات الوطنية
بدورها عرضَت الباحثة جوليات الراسي، في ورقتها "نشر الوثائق والمخطوطات التاريخية ومنهجيّاته (بعض النماذج)" نُسخاً عن مخطوطات تعُود إلى القرنين الثالث عشر والسابع عشر الميلاديين، وكذلك مخطوطة وضعها شاهد عيان مجهول حول حوادث 1860 في دمشق بعنوان "تنهُّدات سيريا"، وأوراقاً من محفوظات "المكتبة البطريركية" في دمشق بالقرن التاسع عشر. ولفتَت الراسي إلى "تأخُّر الاشتغالات التحقيقية في الأكاديميات العربية، وافتقارها إلى الدعم المالي واللوجستي، رغم أنّ إرث التواصل بين الشرق والغرب في هذا الصدد بدأ مع الرحلات الاستشراقية الأُولى، وجهود الآباء اليسوعيين المبكّرة التي تعود إلى القرن السادس عشر".
واختتم الباحث إلياس القطّار الجلسة الأُولى بورقته "التأريخ للبنان الوسيط: موقعه من مدارس التاريخ الاجتماعي والاقتصادي"، وأشار فيها إلى أنّ "لبنان لم يستحوذ في القرون الوسطى إلّا على دراسات قليلة جدّاً، حيث كانت رقعته الجغرافية تتّسع وتضيق تبعاً للمراحل التاريخية"، مع ذلك، ظلّت تسمية "لبنان" في الكتابات التي تناولت هذه المرحلة، تأخذ، وفقاً للباحث "طابعاً سلبيّاً لصالح تسميات مأخوذة من المناطق اللبنانية". وضمن هذا السياق، عرَض القطّار لجهود مُؤرِّخين مثل عمر التدمري (1940)، وكمال الصليبي (1929 - 2011)، ومحمد علي مكّي (1929 - 2013).
"نقد تاريخي؛ تأريخ الذهنيات؛ الاتجاهات القومية" عنوان الجلسة الثانية التي ترأّسها المؤرّخ السوري محمد جمال باروت، وتضمّنت ثلاث أوراق، حيث قدّم المؤرّخ اللبناني نايل أبو شقرا مداخلة بعنوان "شيعة لبنان في عهد المماليك، الهويات المُلتبسة في كتابات كمال الصليبي: دراسة نقدية"، تناول فيها نقديّاً ثلاثة كتُب أنجزها المؤرّخ كمال الصليبي، هي: "تاريخ لبنان الحديث"، و"منطلق تاريخ لبنان"، و"بيت بمنازل كثيرة"، التي شكّلت، وفقاً لأبو شقرا، "أوّل إطلالة على الديموغرافيا السكّانية في لبنان خلال العهد المملوكي"، لكن هذا لا يعني، كما تابع الباحث "أنّ قراءة الصليبي ليست مُجتزأة، فهوية الكسروانيّين (نسبة لمنطقة كسروان في محافظة جبل لبنان حالياً) قد تكشّفت من خلال فتاوى ابن تيمية عن أنهم ليسُوا شيعة، بل دروز وإسماعيلية عملوا في ظلّ الهوية الشيعية".
أمّا الورقتان الثانية والثالثة فركّزتا على القرن العشرين، حيث بحَثَ أمين إلياس في "التأريخ للأفكار والعقليّات: لمحة من تاريخ لبنان الفكري والثقافي إبّان القرن العشرين" مُبيّناً أنّ لبنان في الفترة الراهنة "يشهد انتقال مُفكّريه إلى دورٍ جديد لهم في عالم متحوّل، ومُحيط عربي لا يزال يتخبّط بين حضارة بائدة ومحاولات للتصالح مع الحداثة"، كما لفَت إلى أنه "يُمكن أن نُميِّز ثلاث حقبات كُبرى في تقسيم قرن المفكّرين اللبنانيّين، تمتدُّ من تأسيس لبنان وصولاً إلى بدايات القرن الحادي والعشرين".
حالَت الأدلجة دون إنتاج تاريخ وطني يعكس وحدة الشعب
وقرأ محمد مراد "الاتجاهات القوميّة وأثرها على تطوّر كتابة تاريخ لبنان خلال القرن العشرين: بحْثٌ في دوافع الأيديولوجيا والخصوصيّات الهوّياتية"، واعتبر أنّ "الأدلجة العربية أو السورية أو اللبنانية حالَتْ دون إنتاج تاريخ لبناني وطني يعكس وحدة الهوية والتاريخ لشعب واحد"، وأشار أيضاً إلى أنّ "المتابع لتطوّرات الكتابة التاريخية عن لبنان، يلمس أنّ مسارها بدأ يلج مرحلة من التاريخانية تقوم على الجهد الاستقرائي والعلمي"، وخلُص إلى أنّ "تاريخ لبنان ما زال موضع مقاربات متناقضة من أكثرية مؤرّخيه على اختلاف انتماءاتهم الطائفية - المذهبية، على الرغم من مرور مئة سنة على إنشائه ككيان سياسي". رغم هذا فإنّ ما يُبشّر بكتابة تاريخية واعدة لمستقبل الكيان الوطني اللبناني، وفقاً للمُحاضِر، هي "تلك الكثرة من مراكز الأبحاث الناشئة والمؤتمرات والأبحاث وانتعاش حركة التأليف".
حملت الجلسة الثالثة والأخيرة من جلسات اليوم الأول من المؤتمر عنوان "السجلّات العثمانية والتأريخ للأرياف والمدن اللبنانية" (ترأّسها جوزيف أبو نهرا)، واشتملت على ثلاث أوراق أيضاً، تناول في أُولاها الباحث عصام خليفة "الأرشيف العثماني وأهمّيته في تجديد الكتابة التاريخية في لبنان"، مُنطلقاً من ركيزة تأسيسية اعتبر من خلالها أنّه "لا غنى عن الأرشيف العثماني في سياق تجديد الكتابة التاريخية عن لبنان"، لافتاً من ناحية إجرائية إلى عدم توافق الخبراء على عدد الدفاتر والأوراق التي يتشكّل منها الأرشيف، كما شدّد على ضرورة تصوير هذه الوثائق وإتاحتها أمام الأجيال الجديدة من المؤرّخين والباحثين".
أمّا الباحث فاروق حُبلص فرأى في ورقته، "وثائق المحاكم الشرعية في لبنان ومساهمتها في التأريخ للمرحلة العثمانية"، أنّ هذه السجلّات "تُساعد في إدراك الواقع التاريخي لعموم المنطقة، إذ تزخر بوثائق متنوّعة تعين في استخلاص أدقّ التفاصيل عن ماضي مجتمعنا". كما تُشكّل هذه الوثائق، حسب حُبلص "كنزاً ثميناً وحافظاً أميناً ومُحايداً لوقائع الأحداث اليومية بتفاصيلها الدقيقة، مثل معرفة أوضاع الجاليات الأوروبية، ومعرفة العلاقات بين الطوائف، وإن كان الباحث في قيود المحاكم الشرعية يُلاحِظ اختلافاً كبيراً في حجم ونوعية المادّة التاريخية".
انتعاش في التأليف يُبشّر بكتابة تاريخية واعدة لمستقبل لبنان
وختم الباحث خالد زيادة المُداخلات بورقته "التأريخ للمُدن اللبنانية" التي ربطها بموضوع الجلسة، مُشيراً إلى أنّ "الكتابة عن المُدن اللبنانية ظلّت بطيئة في ذاتها، وكانت جزءاً من الكتابة عن التاريخ الحضاري عموماً، رغم أنّ هذا النوع من الكتابات، وعلى نحو يحفظ التسلسل الزمني، ينتمي اليوم إلى الكتابة التاريخية الحديثة"، كما أكّد صاحب كتاب "الكاتب والسلطان" أنّ التطوّر في التأريخ للمُدن، بناءً على أسئلة العلوم الاجتماعية، أدّى إلى اللجوء إلى وثائق المحاكم الشرعية.
وافتُتحت أعمال اليوم الثاني من المؤتمر بجلسة أُولى، ترأّسها الباحث منذر جابر (سُبقت بدقيقة صمت على روح المؤرّخ السوري عبد الكريم رافق الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي)، وحملت عنوان "تأريخ عسكري: إعداد المؤرّخين ونشر الوعي التاريخي"، وفيها ناقشت الباحثة ديمة دو كليرك "تطوّر تأريخ الحرب اللبنانية (1975 - 1990) منذ بدء الصراع وفي ما بعده إلى يومنا هذا"، لافتة إلى ما "تأثّرت به الحرب اللبنانية من قضايا كبرى كانت تعبر الشرق الأوسط العربي مثل القومية العربية والإسلام السياسي".
واعتبر الباحث مروان أبو فاضل في ورقته "تطوّر تعليم التاريخ المدرسي والجامعي في لبنان" أنّ على المؤرّخين المتخصّصين في وضع المناهج أن يكونوا مقتنعين بأنّ اللبنانيّين شعبٌ واحد متعدّد الطوائف، بينما أشار الباحث نافذ الأحمر في مداخلته "تطوّر كتابة التاريخ العسكري في لبنان" إلى ما تُبرزه الكتُب الصادرة عن الجيش اللبناني من تطوّر في الكتابة التاريخية، حيث باتت مدعّمة بالصور والوثائق.
وترأّس الباحث بطرس لبكي الجلسة الختامية، وعرض فيها المتدخّلون الثلاثة: سعاد أبو الروس وأمال وهيبه وسيمون عبد المسيح أفكاراً حول "تطوّر المنهجيات وكتابة التاريخ"، حيث اعتبرت أبو الروس أنّ "التاريخ لم يعُد قصّة تُسرَد، بل أصبح تطوّراً بطيئاً، أو سريعاً، نعرف متى بدأ ولا نعرف متى ينتهي"، وتابع هذه الفكرة الباحث أمال وهيبه الذي ربط بين التاريخ والعلوم الاجتماعية، مُؤكّداً أنّ "عملية التأريخ التقليدية لم تعُد قادرة على تفسير الأحداث، وعلى استخلاص النُّظم أو القوانين التي تتحكّم بالظاهرات، أو على استشراف المستقبل، ورسم خطط التنمية المستدامة"، في حين استقرأ سيمون عبد المسيح سيرورة التأريخ المحلّي من الجهود الفردية إلى المؤتمرات الجماعية، موضّحاً الدور المهمّ الذي لعبه نشرُ الوثائق وفتح الأرشيفات أمام الباحثين في تطوّر البحث العام والمحلّي.