يمرُّ صوتٌ من جمهور ندوة "اللغة العربية: الحماية القانونية ومجتمع المعرفة"، في "معرض الدوحة للكتاب"، مساء الأحد الماضي، يُنادي بعدم ضرورة سنِّ قوانين تحميها لأن "للعربية ربّاً يحميها". فإذا كان الأمر كذلك، لماذا تكبّد المتحدّثان في الندوة عناء تحضير الأوراق وترتيب الأفكار، وهُما المدير التنفيذي لـ"معجم الدوحة التاريخي للّغة العربية"؛ عز الدين البوشيخي، وعلي الكبيسي؛ عضو المجلس العِلمي في المعجم.
هما معاً يعرفان أنّ اللغة العربية لا تشكو من ضعف الحضور في العبادات والتشريعات القانونية، ولكنّها تتعرض للتهديد في كلّ مناحي المجتمع من التعليم وسوق العمل إلى الإعلام والبحث العِلمي والإنترنت. ولربّما كان الردّ الأسهل على لسان الكبيسي في ما يتعلّق بحماية الله للُغتنا، أن يلجأ للنص القرآني الذي يقول "وقلِ اعملوا"، وإلى الحديث النبوي "اعقلها وتوكّل". هكذا الأمر ببساطة، ولكنّها البساطة التي تُشير رمزيّاً إلى معضلاتٍ تعيشها اللغة، وتعيشها هوية الفرد والجماعة، وتستوجب - على الأرض - أن يعمل العاملون ويعقلوا.
قوانين حماية العربية يشوبها القصور بالمعنى الإجرائي
تقاسَم المتحدِّثان طرحَين في الحماية ثم مجتمع المعرفة، في محاولة لاستقراء المُمكن في المستقبل، والذي يستلزم قبل ذلك تشخيص الواقع الراهن للغة العربية.
قدّم الكبيسي عرضاً تاريخياً موجزاً للقوانين التي صدرت في ثمانية بلدان عربية من أجل حماية اللغة العربية، وهي مصر وليبيا وسورية والعراق والجزائر والإمارات العربية المتّحدة والأردن وقطر. واقع الحال، وفق رؤيته، يشهد أنّ تلك القوانين يشوبها القصور، ليس في موادّها، ولكنْ في ما يتطلّبه تنفيذُها من إجراءات عَملية وآليات فاعلة، تُحدِث أثراً مباشراً ملحوظاً في واقع استعمال اللغة العربية ضمن مناحي الحياة كافة.
وفي العرض النقدي لهذه القوانين، لاحظَ أنّ الواقع العمَلي قد اضطرّ هذه القوانين إلى إيراد مجموعة من الاستثناءات التي تُجيز استعمال اللغة الأجنبية في بعض المجالات مع إرفاق ترجمة إلى اللغة العربية، أو استعمالها إلى جانب اللغة العربية شريطة أن تكون اللغة العربية أكبر حجماً وأبرز مكاناً.
وأرجَع هذه الاستثناءات إلى أحكام تفرضها العلاقات الدولية في الاتفاقيات والمعاهدات، والعقود، والاجتماعات، والمؤتمرات الدولية، والمعاملات الاقتصادية والبحوث في المجالات العِلمية والطِّبية والتكنولوجية. وأضاف أنّ هُناك بعض المجالات التي دأبت على استعمال غير اللغة العربية، وأصبحت بمرور الأيام وطول المدّة عقَبة أمام تنفيذ القانون.
لا تتحقّق نهضة عِلمية بعيداً عن لغة المجتمع الوطنية
أما اللجوء إلى كتابة الاسم الأجنبي بأحرف عربية فلا يُخرجه من أجنبيته، كما أوضح، بل يرسّخها بدوام استعماله.
وأكّد المُحاضر أنّ القانون إذا لم يكن متبوعاً بآليات تنفيذه، فمن المُستبَعد أن تُطبّق موادُّه، فيصبح عديم الفائدة وحِبْراً على ورق. وقال إن هذه الفجوة الواضحة بين القانون وآليات تنفيذه هي السبب الرئيس في عدم تأثيره في الواقع اللغوي، وتعزيز مكانة اللغة العربية.
في الشقّ الثاني الذي تناوله عز الدين البوشيخي نقف على مجتمع المعرفة، من حيث كونه مفهوماً حديثاً، يتعلّق بامتلاك المعرفة والمُساهَمة في إنتاجها، وفي نشرها واستثمارها وتوظيفها ضمن مجالات الحياة المتعدّدة في قطاعات الاقتصاد والتعليم والإدارة والإعلام والحياة العامة. وهذا المجتمع اختصره البوشيخي بأنه الذي يتمكّن من إحداث النهضة الشاملة؛ على أنّ هذه النهضة لا يُمكن أن تحدُث إلّا بلُغة الوطن، أي اللغة الأصلية للمجتمع.
وبما أنّ اللغة الأصلية للمجتمعات العربية هي العربية، فإنّ لا مجال للحديث عن تنمية ولا مجتمع معرفة واقتصاد للمعرفة، من دون وجود لغة داعمة لهذا المجتمع. وفي تأمّله للمستقبل قرأ المشهد من خلال ثلاثة سيناريوهات للمستقبل، حيث المستقبل له صور ثلاث، وهي: "المُمكِن"، و"المتوقّع"، و"المحتوم".
فـ"المحتوم" هو أن يُترَك الأمر على حالِه ليكونَ مآلُه تِبْعاً لما تُرِك عليه، و"المتوقّع" الذي إذا تدخّلت عوامل بدراسة معيّنة تؤدّي الى مستقبل له مشهد محدّد، و"المُمكن" هو المستقبل الذي يحدث تحوّلاً في الواقع بناءً على عوامل جذرية في المجتمع وكيفية إقامته وسيرورته.
استعمال غير العربية تحوّل مع الوقت إلى عقَبة قانونية
ولأنه لا يُمكن التحدّث عن سيناريو "المُمكن"، إلّا بمعرفةٍ دقيقةٍ لواقعنا فإنّ هذا يقتضي دراسة مَسْحية لواقعنا، كما أكّد: "استخدمنا فيها نموذَجين للدراسة المَسْحية والاستشرافية؛ الأول التحليل الرباعي، والثاني التحليل المجالي".
وتبعاً للتحليل الرُّباعي الذي يقوم على تحديد مواطن القوّة، ومواطن الضعف والفرص والتهديدات، نقَل لنا البوشيخي هذه المؤشِّرات، ففي مجال التشريع والقضاء والدِّين تبدو اللغة العربية في وَضْع "قويّ جداً"، وحاضرة بنسبة مئة بالمئة. وفي مجال الحياة العامة والتربية والتعليم يُفيد المؤشّر إلى أن وَضْع اللغة "قوي". وفي مجال التجارة والاقتصاد والإعلان والإنتاج الإعلامي والدعاية والثقافة والفنون والتراث "متوسّط". وفي الرياضة والأنشطة الشبابية والتنمية والعمران وسوق العمل "ضعيف جداً"، وفي مستوى الابتكار والإبداع والبحث العلمي والإنترنت والتواصل الاجتماعي والتمكين وتعزيز السيادة كذلك الوضع "ضعيف جداً".
بهذه المؤشِّرات لا يُمكن إقامة مجتمع معرفة بالمفهوم الحديث، حين تكون سوق العمل بغير اللغة الوطنية، كما لا يُمكن ذلك دون أن يكون التعليم في جميع مراحله باللغة الأصلية واقعاً في تصنيف "قوي"، أو "قوي جداً"، كما أوضح.
ونادى البوشيخي بأن يكون القرار في تطوير وانتشار اللغة العربية قراراً سياسياً، يُحدّد العوامل التي تنهض بمجتمع المعرفة في مجال التعليم والإعلام والابتكار وسوق العمل، والإنترنت والتواصل الاجتماعي، والسيادة والدبلوماسية اللغوية.
هذا القرار السياسي، وفق ما اقترح، يقع عليه إيجاد آليات تنفيذية تسمح بإعلاء شأن اللغة العربية في أرضها بصورة طبيعة كما اللغات العالمية، وآنذاك "نستطيع التحدّث عن إرادة حقيقية لبناء مجتمع معرفي عربي".