الكاريكاتير.. تفكير ساخر في مآسي العالم

10 مارس 2022
كاريكاتير للزميل عماد حجّاج (العربي الجديد)
+ الخط -

(وفاءً لناجي العلي ورسالته)
 

لا يهتمّ الكاريكاتير بتوافه الأمور وبالأحداث العرضيّة، كما يبدو ظاهر الأمر، إنّه في العادة ملتزم بأكثر القضايا جديّة ومصيريّة وتحمّلاً للمسؤوليّة. ومع كل أزمة عالميّة، كالاجتياح الرّوسي لأوكرانيا الذي نعيش على وقعه هذه الأيام، سرعان ما تمتلئ صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية بالرسومات الكاريكاتيرية، وكأنها تلاحق الأحداث مثل نشرات الأخبار، لكن ببلاغة مختلفة قوامها تمرير المؤثرات الفكرية والنفسية دون تصريح برسالة حيث يجري التغليف بقشرة من السّخرية.

وبشكل عام، يتضاعف الاهتمام بفنّ الكاريكاتير في مختلف المتون والمحامل. فإلى جانب المنابر الإعلامية، هناك عدد أكبر من الكتب المخصّصة لجمع رسومات الكاريكاتير، وهناك اهتمامٌ أكبر من منتجي البرامج الوثائقية برسّامي الكاريكاتير، ما يزيد في حضورهم في الفضاء العام. فما الذي يجعل هذا الفنّ مشاركاً رئيسيّا في صناعة الرّأي العام أكثر من أيّ وقت مضى؟

سؤالٌ لا ينسحب على فنّانين لا يزالوا يُنتجون فحسب، إذ يظلّ ناجي العلي (1937 - 1987) فاعلاً بفضل الكاريكاتير، يعلّق برسومات أنجزها منذ ثلاثة وأربعة عقود على أحداث كثيرة مما نعيشه اليوم، وهو الذي كانت رسومه سبباً لاغتياله! فكيف تتسبّب الصورة بمقتل مبدعها ومتى تمكّنه من الانبعاث المتجدّد والولادة المستمرّة؟ وكيف تخرج الصّورة الكاريكاتيريّة من بوتقة ذاتٍ فرديّة بعينها لتكون حمّالة لهواجس الجماهير؟ ما الذي يجعل الكاريكاتير حاضراً بقوّة بين تضاعيف السّيرورة الاجتماعيّة وما يعتمل فيها من مواقف وأفكار وردود أفعال، بحيث يتجلّى الرّسم الكاريكاتيري بوصفه قطعة نشيطة في رحى المعارك الفكريّة والماكينة المولّدة للقيَم الاجتماعيّة لفضح المتناقضات ونقد الأوضاع؟ هل لأنّه فنّ يعتمد على التّلميح دون التّصريح الفجّ؟ ولكن، عن أيّ تصريح نتحدّث وقد اكتسح الخطابُ الصّريح أرجاءَ الفضاء العام، الإعلامي، الثقافي، السّياسي، وأصبحت حرّية العبارة والنشر حقّاً مشاعاً بين الأفراد والجماعات، بما يُغني عن أيّ تلميح أو اختزال، بل وقد جرف تيّار حرّية الرّأي مختلف التابوهات والخطوط الحُمر التي كانت تتخفـّى خلف ناموس السّلطة وتخفي وراءها عورة السّلطان؟

يتوفّر الكاريكاتير على خبرة دقيقة في الفضح وتوجيه النّظر

لا ريب؛ يتوفّر الكاريكاتير على خبرة دقيقة في الفضح وتوجيه النّظر وقدرة على التحكّم في مضامين العناصر السيميائيّة ومرجعيّاتها وإحالاتها، الزّلوقة والمخاتلة، داخل الأفق التّأويلي. فهو فنّ ينبذ الصّياغة القوليّة المباشرة وينشط عبر التّأويل، إذ يستفزّ في النّاظر قدرته على تفكيك منظومة العلامات والرّموز وإعادة إنتاجها وفق راهنيّة المرحلة وأفق الانتظار.

ومن خلال احتماليّة التّأويل تتعدّد مستويات التمثّل بحسب أفق الانتظار لدى المتلقّي ومدى إلمامه بخفايا الأمور. ولئن "جُعل الكلام لنخفي ما نريد"، كما قال نيتشه، فإن مِنْ شأن الصّورة المرسومة، بفعل آليّات التّأويل، أن تهتك الحجب وتُعرّي ما كان مخفيّاً. ويبدو الكاريكاتير هزليّاً في ظاهره ولكنّه أكثر الفنون جدّية، من حيث إنّه يطرح قضايا مركزيّة جادّة تنبت وتتحرّك في قلب الشاغل العام، مثل الحيف الاجتماعي والظلم والقهر وخبث السّاسة والرّساميل وقوى الاستعمار؛ إنه يفضح طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، يترعرع داخل الحسّ النقدي الجريء، ينمو داخل جدل المتناقضات الصّارخة، يرسم المسكوت عنه بل وحتى ما لا يُقال. كما يلفت الانتباه إلى أبسط الأشياء وأكثرها اعتياديّة ويحوّلها إلى مواضيع "مصيريّة" تستأهل النّظر والتّقصّي.

وما بين الهزل والجدّ، الظاهر والخفيّ، تنكشف تعدّديّة المعنى. فالصّورة، هنا، تتغذّى وتعيش بما تُضمره من دلالات ذات بال بين عينيّ القارئ. إذ إنّ الكاريكاتير الذكيّ هو الذي يلامس قضايا مغرقة في الجدّية بشكل يثير الهزل، عندما يقع الدّفع بتناقضات المخيال الاجتماعي إلى حدودها القصوى. ألم يعرّف الفلاسفة القدامى الإنسان بأنّه "حيوان يعرف كيف يضحك"؟ ألم يقل الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون في كتاب "الضّحك" أنّ "الضّحك يتّجه إلى الذكاء الخالص وله وظيفة اجتماعيّة" وأنّ "ضحكتنا هي دوماً ضحكة المجموعة"، وأنّ أكثر ما يثير الهزل هي أكثر قضايانا جدّية، حيث "الكثير من المآسي تتحوّل إلى كوميديا"! وبقدر انخراط الكاريكاتير في الوظيفة العامّة للآلة الإعلاميّة، وبقدر ما يحظى بالنشر على أوسع نطاق، تكون قدرته على التّأثير. إذ كم مرّة تبدو ضحكة المُشاهد في المسرح أعرض وأقوى كلّما كانت المدارج ممتلئة أكثر.

ما تزال كاريكاتيرات ناجي العلي فاعلة بعد عقود من اغتياله

وبعيداً عن الخطابات القوليّة المستفيضة، يشعر النّاظر ــ القارئ أنّه معنيّ من جهتين، من جهة الموضوع الذي يلامس شاغله الرّاهن، ثمّ من جهة تثمين هذا الموضوع وقراءته، أي تفكيك مكوّناته ثمّ لملمَتها بما يناسب ذكاءه التّأويلي. وأبداً، لا يقدّم الكاريكاتير، مهما تتعدّدت مدارسه، حقيقة جاهزة في طبق مطرّز بالذهب أو بالعاج. إنّه بمثابة ورشة تفكير حيّة. ومن هذا الجانب، يمثل الكاريكاتير ثورة تواصليّة تقوم على المشاركة وتبادل المواقف والتفاعل الخصب والتّحريض على التّأويل. وعلى هذا الأساس نفهم كيف أنّ الكاريكاتير صديق للثورات والانتفاضات ومساهمٌ فيها بل وقادح من قوادحها الملهمة ومعترك للفكر النقديّ. وها هو اليوم يلعب دوره كأداة مقاومة ساخِرة، يُظهر انخراط آلاف الفنّانين في آلام الأوكرانيين من الاجتياح الروسي ويضع النوايا الدّفينة لهذا الأخير في مقام المرئيّ، أي يعرّيه من خطابه الديبلوماسي المصاحب ومن سطوته العسكرية على الأرض.

هكذا، ليس الكاريكاتير مجرّد تقنية غرافيكيّة أو زينة لصفحات الجرائد. وبالتّوازي، ليس خطّة مجّانية مُباحة للثلب والتجريح، وليس انخراطاً أعمى في التفرقة بين المجتمعات، إنّه مجال لتوحيد الصّفوف ورفع الهِمَم، وقد ارتبط بالمقاومة وبناء منظومات الوعي البنّاء.

فنّ ينبذ الصّياغة القوليّة المباشرة وينشط عبر التّأويل

وفي فضائنا العربي، لمع الكاريكاتير كواجهة للخطاب الثوري خلال الانتفاضات العربيّة، فكان أحد محامل مضامينها الاحتجاجيّة، ولقد تنوّعت مجالات ظهوره وتجاوزت المحامل الورقيّة الخاصّة بالصّحف الورقية أو الإلكترونيّة وشبكات التّواصل الاجتماعي، لتجد مساحة واسعة في جدران المدينة والحيّ وواجهات الفضاء العام.

كما أصبح الكاريكاتير فضاءً في حدّ ذاته ترتسم على صفحته صراعات الأيديولوجيا وتصوّرات إدارة الحياة المشتركة، وبذلك يعوّض الكثير ممّا نفتقده أحياناً من قيَم المواطَنة والمشاركة الخلاّقة ويقدّم نفسه كتقنيّة ناعمة للمقارعة والحِجاج وفضح التّناقضات الأكثر تعقيداً، تلك التي تميّز الحياة السّياسيّة وخاصّة ما يتعلّق بعلاقة الحاكم والمحكوم. أليس حَريّاً بنا أن نُنزّل قيَم هذا الفنّ منزلةَ ما ننشده من ثورة ثقافيّة، من جهة أنّه يمثل بامتياز نقلة نموذجيّة بالفكر من أنماط الثقافة الامتثاليّة الموالية لسلطة السّائد إلى ثقافة مشاكسة، تلعب دوراً فاعلاً في ميزان السّلطة والمواقف، تتصدّى لسكونيّة الوعي وتدجين الرّأي وحبس المواقف وقبر الفكر الحرّ؛ ثقافة تستفيق على وقع الفكر التّاريخي، تنبض في قلب الرّاهن وتعانق منطق الحياة؟ والنّظر مستمرّ. 


* أكاديمي وفنّان تشكيلي تونسي

المساهمون