القاموس كماكينة أحلام

24 اغسطس 2024
عمل بلا عنوان، إيتل عدنان
+ الخط -
اظهر الملخص
- الكتابة تشبه السباحة والرقص، حيث يبدأ اللاوعي بالعمل ويطغى الحدس وعالم الحلم على هذه الممارسة، مما يجعل الكتابة عملية غامضة وغير قابلة للتعريف.
- الكاتب روبرت أولين باتلر يشبه الكتابة بالدخول في النوم، حيث ينفصل الإنسان تدريجياً عن الوعي ويدخل في عالم الحلم، مما يجعل الكتابة اجتياحاً للحلم.
- الكتابة تكتشف جوانب من الذات كانت مجهولة، وتظل خاضعة لعقلنة السرد واحترام القواعد، مما يعارض الكتابة الصادرة من أعماقنا.

... والكتابة أيضاً مثل السباحة، ومثل الرقص. عندما تبدأ بالحركة يبدأ في الآن لاوعيك بالاشتغال، يبدأ عقلك السرّي بالاشتغال الغامض. لأنّه، وكما يُؤكّد علماء النفس، لكُلّ فعلٍ من أفعالنا، مهما كان عقلانياً، دافعٌ لاواعٍ، وفي الكتابة يطغى اللاوعي والحدس وعالم الحلم على هذه الممارسة العجيبة.

لذلك يُشبّه الكاتب الأميركي روبرت أولين باتلر الدخول في الكتابة بالدخول في النوم؛ حيث يبدأ الانسان في الانفصال، كما يقول، شيئاً فشيئاً، عن الوعي إلى أن ينسحب إلى عالَم النوم. في الكتابة ثمّة شيءٌ شبيه بذلك، فأنت تدخل من الباب الآخر، باب الحلم، ويُسمّي هذه العملية باجتياح الحلم؛ الكتابة لديه هي اجتياح الحلم.

لهذا السبب تراك إذ تُعيد قراءةَ ما كتبت، تكتشف تلك الجوانب الأُخرى من نصّك التي لا تدري من أين أتت، وقد تجد نفسك تُردّد كلمة آرثر رامبو: Car Je est un autre (أنا هو غيري). ولذلك أيضاً تظلّ الكتابة ممتنعةً عن كلّ تعريف وأيّ تعريف. وفي هذا السياق، تقول مارغريت دورا: "أنا لا أدري ماذا يعني فعل الكتابة".

أجل، نحن نمارس الكتابة، نُراجع ونفحص ما كتبنا، ونقرأ ما نكتب؛ تَرانا نُدرك كلّ تجلّيات الكتابة، ولكنّنا لا نعرف كنهها. أيضاً، أثناء الكتابة نكتشف جوانب من ذواتنا كانت مجهولة قبل اجتياح الكتابة/ الحلم. وهذا يُذكّرنا بمقولة كارل غوستاف يونغ أنّه، وعبر الحلم، يتكشّف لنا اللاوعي، وبالتالي تتكشّف لنا جوانب من حقيقتنا الداخلية العميقة.

أغلب نصوصنا ما زالت خاضعةً لعقلنة السرد واحترام القواعد

أجل، الكتابة شبيهةٌ بالسباحة؛ فأنت تتعلّم السباحة وأنت في الماء أثناء السباحة، ولا تتعلّمها في اليابسة. لا تنفع كُتُب التدريب على الكتابة، ولا النظريات سوى بشكلٍ ضئيل، لأنّها كلّها تعليم سباحة في البرّ. كذلك الأمر في الكتابة، تأتي الأفكار أثناء الكتابة، الوحي والالهام يأتي وأنت بصدد كتابة الكلمات مهما بدت لك نافلة. اجلس، اكتُب، واكتُب، واكتُب، لأنّ مجرّد الكتابة تُحفّزك، وتُشرع أبواب الإلهام. كيف؟ لأنّ الكلمات، وأثناء كتابتها، تسحبك إلى عالمها السحري، لأنّ للكلمات مفاعيلها المذهلة، لذلك يَعتبر رولان بارت أنّ القاموس ماكينة أحلام، كما يرى أنّ أيّ كتابة هي عمل تخييلي.

أسُوق كلّ هذا لأنّ أغلب نصوصنا ما زالت خاضعةً لعالم الأدب والتأليف والبلاغة، وعقلنة السرد، واحترام القواعد، وكلُّ هذا نقيض الكتابة الصادرة عن أعماقنا وعوالمنا الداخلية المظلمة. ولعلّ نصوص إيتل عدنان استثناءٌ جميلٌ داخل هذا العالم الأدبي الذي ما زالت تحكمه قوانين متيبّسة، وكتابها "باريس عندما تتعرّى" نموذجٌ عن انتقال من عالم الأدب إلى عالم الكتابة بكُلّ سحرها.


* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام

المساهمون