الحُبّ والحرب

25 فبراير 2022
فاتح المدرس/ سورية (جزء من لوحة)
+ الخط -

ما الذي يبقى في ذاكرة البشر من رواية ضخمة مثل "الحرب والسِّلم" لتولستوي: الحرب أم السِّلْم؟ لا الحرب تبقى، ولا السِّلْم الذي لن نعرف عنه شيئاً، إلّا إذا قرأنا كتاباً آخر غير هذه الرواية، يبقى.

غير أن قصّة الحب هي التي تبقى، وهي القصّة التي يعشق فيها رجلان، هما بيير بيزوخوف والأمير أندريه، فتاةً واحدة هي ناتاشا، وبسبب قصّة الحب يقدّم لنا تولستوي هذه الشخصيات الثلاث، ويبدو كما لو أن الحرب نفسها، بمَا فيها من "أبطال" مشهورين، لم تكن سوى أداة التاريخ من أجل تحقُّق قصّة الحب.

فإذا أردتَ أن تعرف شيئاً عن الحرب بين فرنسا وروسيا في تلك الحقبة، فإنك لن تعودَ إلى رواية تولستوي، حتى لو كانت قد ضمّت مئات الصفحات من سرد التفاصيل. غير أننا لن نجد في أيّ كتاب آخر شخصيات شبيهة بالشخصيات التي خلقها تولستوي في الرواية ووضعها أمام تجربة الحبّ المعذَّب. ومن بين كلّ ما يقال عن أن الرواية ملحمة عظيمة، نجد أن ما نتذكّره منها هو قصّة الحب، وهذا لافتٌ وطيّب جدّاً، ويذكّرنا بملحمة أخرى من ملاحم الحبّ والحرب هي "الإلياذة".

شخصيات الحرب ذات بُعد واحد ولا تثير أيّة قضايا

فكلّ تلك الجيوش التي جمعها الملك مينلاوس لاقتحام طروادة، إنّما كانت بسبب قصّة الحب بين باريس وهيلين. كلّ ما في الملحمة ينساه القارئ وهو يتابع مصير الحبّ بينهما: ماذا حدث؟ وأين هما؟ ويبدو لي أحياناً أن هوميروس يُعامل بطل الملحمة الخارق، أخيل، بنوع من الازدراء، سواءً في طبعه الشرس المتقلّب، أو في موته التافه بسهمٍ في كعب رجله، رماه به باريس العاشق نفسه. ومَن يقرأ "الإلياذة" سوف تظلّ قصّة الحب هي الباقية عنده، بغضّ النظر عن موقف البشرية منها، بل إن تلك المواقف المتناقضة تجاه هيلين وقصّة حبها، وفرارها مع باريس، إنما كانت تؤكّد أن الحب كان دائماً أقوى من الحرب، وأنه هو الذي يثير قضايا فكرية وفلسفية وأخلاقية، وصراعات وتناقضات أكثر من أي حرب.

وهذا ما توضحه لوري ماغواير في كتابها "هيلين طروادة"، فقد شغلت قصّة حب هذه المرأة الفلاسفة والمسرحيين والشعراء من أيّام اليونان حتى يومنا هذا، وأثارت خلافات عميقة أيضاً، بين مَن يؤيّد هيلين، وبين مَن يعارض خيارها ويلقي باللوم عليها، بينما بدَتْ الحرب مجرّد إطار أو خلفية لخدمة القصّة الرئيسية، وبدت الشخصيات التي سوف تُشتهر في التاريخ، ذاتَ بُعد واحد، أي أنها لا تثير أية قضايا ومشاغل مثل تلك التي أثارتها شخصية هيلين.

ولم ينجُ أوديسيوس، وهو من شخصيات "الإلياذة"، من المصير نفسه، فقد منحه الشاعرُ مغامرات طريق العودة إلى إيثاكا، بينما قدّم لحبّ بنيلوبي، زوجته، بطولة "الأوديسة" والعشرات من المسرحيات والروايات والمشاغل الفكرية.

قد يبدو فِعْل التفضيل مجرّد رغبة، وقد يُظهر الواقع أن حديث الحرب هو الذي يسيطر على التاريخ، أو على الحاضر، ولكنّ الحقيقة هي أن كل هؤلاء الذين قرعوا طبول الحرب في التاريخ، أو يقرعونها في الواقع، يتحوّلون في الروايات العظيمة إلى طبّالين فقط.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون