التنوير بالترجمة

06 فبراير 2021
(طه حسين في منحوتة لعبد الهادي الوشاحي، 1996)
+ الخط -

كثيرا ما نُصادِف في مجال القراءة كُتُباً ونصوصاً عُني بترجمتها كُتّاب مرموقون، حرَّك إقبالَهم عليها هاجسُ إدخال الجِدَّة في ثقافتهم المُضيفة، لإحداث التغيير فيها عبر تلقيحها بالغريب. ولا يختلف اثنان على أنّ طه حسين من أبرز هؤلاء في محيطنا العربي، في القرن الماضي، ويكاد جميع المثقّفين العرب يُجمعون على ريادته في حقول معرفية متنوّعة، وعلى موسوعيته، وعلى استحقاقه عمادةَ الأدب العربي.

وللاستدلال على مكانة طه حسين في الثقافة العربية الحديثة يكفي التذكير مثلاً بالمشروع الضخم الذي أشرف عليه، والذي عُرِف بـ"لجنة التأليف والترجمة والنشر"، الذي عَرض له في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" (1938). لقد قدَّم طه حسين من موقعه الأكاديمي وداخل الدولة التي تحمَّل فيها مسؤولية وزارة المعارف- الثقافة ما يخدم به المجال الذي يدخل ضمن اهتماماته؛ فعمل على إخراجِه إلى النور، بعد أن خطَّط له، ودشَّنه، وسهر على اشتغاله وتفعيله، بل إنه كان من المُسْهِمين فيه، عند انطلاقه في مستهل الخمسينيات، بترجمته إلى العربية عدداً لا بأس به من الأعمال الأدبية، إلى جانب نشر بعض مؤلَّفاته وتحقيقاته.

كان طه حسين يعي أنّ "على الدولة المسكينة يقع هذا العبء [...] أن تُنشئ مكتباً للترجمة على أن يكون عمله منوَّعاً بعض الشيء، فينهض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة التي أصبحتْ تراثاً للإنسانية كلّها، والتي لا يجوز للغة حيّة أن تخلو منها [...] ثم يُترجم هذا المكتب الآثار الثقافية الوسطى التي تتّجه إلى عامّة المثقّفين".

لا ترجمة إلّا إذا تَوافَر شرط الانفتاح على ثقافة الآخر

يُطلعنا مشروع "لجنة التأليف والترجمة والنشر" على بعضٍ مِن الجبهات التي ناضل طه حسين متنقّلاً بين متاريسها المتعدِّدة، لكنّ الذي يهمّنا أكثر ها هنا هو انتباهُه إلى المكانة المتميِّزة التي للترجمة في حياة الأمم، وإلى الدور الكبير الذي ينبغي أن تقوم به بغاية الارتقاء بها وتنميتها، وهو ما يقتضي تدخُّل أطراف أُخرى كثيرة، لأنَّ "الواضح جدّاً أنَّ هذا المكتب لن يستطيع وحده أن ينهض بهذه الأعباء الثقال، فلا بُدّ من تشجيع المترجِمين وإغرائهم بالمال؛ ومهما تبذُل وزارة المعارف في ذلك فلن تندم عليه؛ لأنه سيُغني اللغة ويُحييها".

لقد آخذ طه حسين عالَمنا العربي على عدم إيلاء الترجمة الاهتمامَ الذي تستحقُّه، واعتبر أنَّ إهمالَها يُفوِّت على العرب الإفادة من "الآثار العلمية والفنية والأدبية التي تنعم بها الإنسانية الراقية"، ويَحرمهم "من الاستمتاع بلذاتها النقية الممتازة". واحتجّ لدعواه بمُعطى تاريخي دامغ يكشف عن تخبّط العرب في العصر الحديث، أو بالأحرى تناقضهم، فنحن "ما أكثر حديثنا عن مجد العرب الأوّلين حين أقبلوا في شَرَهٍ رائع على آثار الأمم المتحضِّرة، فنقلوها إلى لغتهم، ومزجوها بتراثهم، وغذّوا بها عقولهم وقلوبهم، وكوّنوا منها حضارتهم". لكنّ هؤلاء المتبجِّحين بماضيهم هم نفسُهم الذين يعرقلون مشاريع الترجمة، أو يصرفون الناس عنها، بل منهم من يُندّد بها بدعاوى كثيرة، وهم لا ينتبهون إلى أنّنا "نحن من غير شك أقلّ الأمم حظّاً من الترجمة، وأقلّها علماً لا أقول بدقائق الحياة العقلية الأوربية، بل أقول بأيسر مظاهرها، ومصدر ذلك أننا نجهل كثيراً من اللغات الأوربية".

طالب طه حسين بمراعاة حق القُرّاء الذين لا يقرأون بغير لغتهم

وفي الوقت الذي دافع فيه طه حسين عن حقوق المترجِمين، نجده يُطالب بمراعاة حقوق فئة القُرّاء والكُتّاب التي لا تقرأ في غير لغتها؛ فيرى ضرورة أنْ يُترجَم لها ما يدور في الثقافات الأُخرى، ويُلحّ على أنّ في "ذلك حقّاً لها على الدولة، وهو حق على المثقّفين القادرين على الترجمة".

هكذا ننتهي إلى أنّ الموقف الفكري التنويري لطه حسين يجد صداه في موقفه من الترجمة، التي شرْطُها الأساسي هو الحرية أيضاً، فلا ترجمة ممكنة إلّا إذا تَوافَر لها شرطُ الاستعداد للانفتاح على ثقافة الآخر بحرية، لأنها السبيل إلى الإبداع يمرّ عبر الحرية، "ومن المحقَّق أنّنا لن نؤلِّف التأليف الذي يُرضي حاجتنا إلى العلم والأدب إلّا إذا ترجمنا وأكثرنا من الترجمة".


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون