من الكتب المُهمّة التي أثّرت في الوعي النقدي العربي منتصفَ التسعينيات من القرن الماضي كتابُ الأميركيّين جورج لايكوف ومارك جونسون "الاستعارات التي نحيا بها"، الذي نقله إلى عربية مُبينة المترجمُ عبد المجيد جحفة. ويُشهد لهذا الكتاب بقلبه لنظرية الاستعارة كلّيةً، نظراً لتنصيصه على أنّ عمل الاستعارات يتخطّى التزيين إلى بَنينة فِكرنا، وبتأثيره في حقول معرفية عديدة.
يرى كثيرون أنّ الكِتاب كلُّه فوائد، لكن يبدو لي أنّ من الفقرات القيّمة فيه قوله: "تمثّل الاستعارة بالنسبة لعدد كبير من الناس أمراً مرتبطاً بالخيال الشعري والزخرف البلاغي. إنها تتعلّق في نظرهم، بالاستعمالات اللغوية غير العادية، وليس بالاستعمالات العادية. وعلاوةً على ذلك، يعتقد الناس أنّ الاستعارة خاصية لغوية تنصبُّ على الألفاظ، وليس على التفكير أو الأنشطة.
ولهذا يظنّ أغلب الناس أنّه بالإمكان الاستغناء عن الاستعارة دون جهد كبير. وعلى العكس من ذلك، فقد انتبهنا إلى أنّ الاستعارة حاضرةٌ في كلّ مجالات حياتنا اليومية. إنّها ليست مقتصرةً على اللغة، بل توجد في تفكيرنا، وفي الأعمال التي نقوم بها أيضاً. إنّ النسق التصوُّري العادي الذي يُسيّر تفكيرنا وسلوكنا له طبيعة استعارية بالأساس".
أعتقد أنّ هذا المقتطف هو الأساس الذي تنهض عليه كلُّ أفكار الكتاب، فهو يوقفنا على أهمية المفاهيم في حياتنا، ويكشف لنا أنّها تنبني على مفاهيم أُخرى سابقة عليها، وأنّ تجاربنا الذاتية، فكراً وجسداً، تُسهم بشكل حاسم في صياغة تلك المفاهيم.
الترجمة كما الاستعارة أسلوبٌ في التراسُل وتخطّي الحواجز
ومع ذلك، فقد وجدتُني أقف عند عبارة "فقد انتبهنا إلى أنّ الاستعارةَ حاضرةٌ في كلّ مجالات حياتنا اليومية" التي ألفيتُها تنطبق على حال الترجمة تمام الانطباق، ذلك أنّ الإنسان يعيش وسط مجتمع، ويستعمل في معيشه وتواصُله اليومي اللغةَ، التي لا غنى له عنها، فهي "مأواه بصفته كائناً" وَفق هايدغر، لذلك لا غرابة في أن يذهب العلماء والأدباء إلى أنّه حيثما توجَد اللغةُ تحضر الترجمة.
ومثلما يلجأ الناس إلى اللغة باستعاراتها للتواصُل فيما بينهم، فإنّ هؤلاء الناس أنفسهم، المُنتمين إلى ثقافاتٍ مُختلفة، يلجأون إلى الترجمة، أي إلى غير ثقافتهم، للتواصُل فيما بينهم أيضاً، "فالترجمة توجد لأنّ الناس يتكلّمون لغات مختلفة"، حسب ج. ستاينر.
ولا يختلف اثنان على أنّ المهمّة الأولى للترجمة هي الوصل بين طرفين أو أكثر، لذلك يحتاج الناس دوماً إلى مترجِمين كلّما وردت عليهم مِن مُرسِل رسالةٌ منطوقة أو مكتوبة. وطالما أنّ ثقافات العالَم ولغاته عديدة، فإنّ وساطة الترجمة بين الثقافات تُيسّر لقُرّائها ارتياد جغرافيات ثقافية غريبة عنهم، فيتحقّق لهم تخطّي الحاجز اللغوي أوَّلاً، والانفتاحُ على الآخر لفهمه والتفاهم معه ثانياً، وضمانُ التعايش بين الأفراد والمجتمعات ثالثاً، لأنّها تُتيح للمُقبِل عليها أنْ ينظر إلى ذاته وإلى العالَم من حوله أيضاً بالانطلاق من تجارب الآخرين ورؤيتهم، ممّا يطبع حياتنا اليومية، وليس الفكر وحده.
لكنّ الترجمة ليست نشاطاً لغوياً أو ظاهرة لسانية فقط، يقتصر دورها على التحرّك بين معجمين، بِنَقل الكلمات بدقّة ورصفها بعناية، مع تحرّي مَن يُنجِزها الحيادَ، أيِ الخفاء، بل هي الدينامية التي نُلقّح بها معيشنا اليومي بتجارب الآخرين، فنُفيد من خبراتهم ليتّسع أُفقنا المعرفي، فهي تساعدنا على التفكير في ذاتنا وفي غيرنا، وتُمكّننا من أن نتعرّف من خلالها على موقعنا ضمن مجرّة ثقافات العالَم، فنكتشف بالمقارَنة والموازَنة مكامن الخلل فينا لنصلحها، ونقف على مكتسباتنا لنعزّزها ولنسعى إلى الارتقاء بها وتجويدها، كي نبقى أحياء مواكبين لمسير الأمم المتحضّرة، ولتكون الترجمة بذلك كلّ فعل تعبيري يأتيه الإنسان، سواء كان حركةً أو صوتاً، يُظهر من خلاله أفكاره أو أحاسيسه أو عواطفه، التي يروم بها إيصال رسالة إلى غيره.
ولربط موضوعنا بالأدب، أستشهد هنا بالروائي مارسيل بروست في كتابه "بحثاً عن الزمن الضائع"، الذي يَرُدّ كلّ كتابة إلى الترجمة، بقوله: "هذا الكتاب الجوهريُّ، الكتابُ الوحيد الحقيقي، ليس على الكاتب العظيم، بالمعنى العادي، أن يبتكره، طالما أنّه موجود مُسبَقاً في كلّ واحد منّا، ولكنْ عليه أنْ يترجمه، لأنّ واجب الكاتب ومهمّته هما واجب المترجم ومهمّته". فيكون بقوله هذا أكثر جذريةً من خورخي لويس بورخيس الذي يذهب إلى أن كلّ كتّاب العالَم يؤلّفون كتاباً واحداً هو كتاب البشرية، ولذلك لا أسف على ما قد يضيع من الكتب، لأنها ستجد من سيكتبها لاحقاً، أي من يترجمها، فتظلّ حيّة، ونحيا نحن بها أيضاً.
* أكاديمي ومترجم من المغرب