الانقلاب النسائي العظيم.. رحلة الأميرة زينب الحسنية من دمشق إلى إسطنبول

19 مارس 2022
تركيات يتلقين دروس الكتابة في إسطنبول عام 1930 (Getty)
+ الخط -

قامت الأميرة زينب الحسنية، حفيدة الأمير عبد القادر الجزائري من جهة ابنه الأمير محيي الدين بـ رحلة من دمشق إلى الأستانة في خريف عام 1920، بعد سنوات من مغادرتها لهذه المدينة بسبب الحرب العالمية الأولى. وفور عودتها إلى منزلها في جزيرة الأمراء، شرعت ترسل رسائل لمجلة العروس الشهرية دونت فيها وقائع رحلتها، ومشاهداتها للتحولات الكبرى التي كانت تعصف بالمجتمع التركي بعد انهيار السلطنة العثمانية، وتوقف الحرب.

وبحكم زواجها من أحد أعيان السلطنة، وهو حسين بك ظافر، نجل الشّيخ ظافر الشّاذلي، صديق السّلطان عبد الحميد، أتيحت لها فرصة الاختلاط بمجتمع النخبة التركي، وكانت على صلة وثيقة بتيارات التغيير الناهضة في ذلك المجتمع الوليد، رغم تبنيها رؤية محافظة تستنكر الانفتاح غير المقيد وهو ما انعكس على نص رحلتها، حيث بدت مدافعة عن الكثير من قيم المجتمع التي كانت تتعرض للهجوم من قبل أنصار التغيير، وهو تيار جارف مقابل أقلية محافظة.


أميركية ضد التغيير

بدأت الأميرة زينب رحلتها من دمشق إلى إسطنبول في مطلع شهر سبتمبر/ أيلول من عام 1920، أي بعد أكثر من شهر على الاحتلال الفرنسي للعاصمة السورية، وسلكت طريق البحر عبر ميناء بيروت. وفي ذلك تقول: "في السّابع من الجاري أبحرت بنا السفينة محموديّة للشّركة الخديويّة، تعرّفنا على ظهرها بسيّدتين؛ إحداهما أميركيّة وهي رئيسة المدرسة الأميركيّة في الإسكندرونة، واسمها مس ميثنغ قضت أيّام العطلة الصّيفيّة في قُرى لبنان، لم تقتصر خلالها على ترويح النّفس، ولم تدع فرصة تفوتها من اغتنام ما سنح لها من الفوائد العائدة على تلميذاتها وتلاميذها بالنّفع؛ لأنّ المدرسة تحوي الجنسين، وهي كريمة قنصل دولة أميركا في اللّاذقيّة، وكان طبيباً وعالماً، اعتنى بتربية أولاده، وعمر ابنته هذه يراوح بين 35-40 عاماً، ارتسمت على محياها أوضح سمات النّبل، وتوقّد الذّهن، وقد رأينا في اختيارها من عزمها وشدّة حزمها، وبُعد نظرها، ما أكبرنا معه همّتها".

ويبدو أن حواراً طويلاً معمقاً جرى بين الأميرة زينب والآنسة الأميركية حول "الثورة النسائية" التي كانت تجتاح المجتمعات المسلمة في بلاد الشام وتركيا في ذلك الوقت، وكان رأي الآنسة الأميركية في تلك الثورة متحفظاً: "تنصح هذه الآنسة لنا بالتّمسّك ببعض عاداتنا التي يكون ضررها أقلّ من خيرها، ومنها الحجاب، وتستحسن الاحتفاظ به باعتدال، ولكنّها تلوم تقاعس العربيّات عن اقتباس لغتهنّ الجميلة، لا سيّما إتقانهنّ لغة الغير أكثر منها.. وقد فهمت في أثناء محاورتها أنّها تستنكف الحُريّة المُطلقة المعطاة للنّساء في أميركا، وبعض بلاد أوروبّا، وتعتقد أنّ الدرجة التي بلغتها نساء الأستانة من الرّقي غير طبيعيّة، وأنّ دخولهنّ دوائر الأعمال والتّجارة دون استعداد لا تؤدّي إلى نتيجة حسنة، وترتئي أنّهنّ إذا لم يُحافظن باعتناء شديد على سلامة أجسامهنّ وطهارتها، لا يتسنّى لهنّ الرّقي الحقيقي، وعطفت على مدح بعض العادات الشّرقيّة، وحثّتنا على بذل السّعي في إبقائها، وقالت إن واضعيها كانوا أكثر حكمة وتعقّلاً من أحفادهم أبناء هذا الجيل".


الانقلاب النسائي العظيم

وفور وصولها إلى إسطنبول تنقل لنا الأميرة زينب صوراً من الحراك النسائي الذي كانت تشهده هذه المدينة التي لم تعد عاصمة، وبحكم صلاتها مع مجتمع النخبة الإسطنبولي، وبسبب إتقانها اللغتين الفرنسية والإنكليزية، كانت على صلة مباشرة بما كان يجري، وقد ذكرت أن الأستانة كانت تشهد قدوم العديد من مراسلات الصحف الغربية اللواتي اجتمعت مع أغلبهن لمتابعة أخبار ما سمته "الانقلاب النّسائي العظيم"، حيث تقول: "تعرّفت إلى سيّدة أميركيّة خطيبة وكاتبة، وهي على جانب عظيم من سعة الاطّلاع والاختيار، وقد أذهلها ما رأته من الاختلاف في أحوال النّساء الحاضرة، عمّا رأتهنّ عليه منذ عهد قصير، وقد أخذت تصف لنا دلائل رقيهنّ، وممّا ذكرته أنّها شاهدت لدى دخولها إلى مصرف أميركي في الأستانة عدّة سيّدات يتعاطين الأعمال، وأبصرت سيّدة تُملي رسالة تجاريّة في الإنكليزيّة على رجل أميركي، وأخرى جالسة إلى الآلة الطّابعة تكتب ما يُمليه عليها رجل آخر، فأخذها العجب؛ لأنّها عرفت هؤلاء النّساء منذ 15 سنة يجلسن وراء السّتور في أقفاص الأسر، فكيف ترى بهنّ اليوم قد حسرن النّقاب، وخالطن الرّجال، وشرعن بالتّعامل والاختلاط برجال أوروبّا وأميركا، وانتقلن من التّفريط إلى الإفراط دفعة واحدة، وجلهنّ من سيّدات العائلات المعروفة؟".

عفت حليم - القسم الثقافي
المدافعة عن حقوق النساء عفت حليم في إسطنبول خلال العشرينيات (Getty)

وقد أبدت الكاتبة الأميركية شديد استنكارها مما شاهدته، حيث اعتبرت ذلك حالة من الانحلال الأخلاقي بسبب الحرب. وقالت: "ما دعيتُ لمأدبة شاي إلّا ورأيت السّيدات يستقبلن الرّجال، ولا بأس في ذلك إذا كان رجال العائلة حاضرين، ولكنّي أرى الأوانس يُرافقن الشبّان إلى المسارح ليلاً، ويسيرون أزواجاً أزواجاً، ولئن كانت هذه الحريّة شائعة عندنا في أميركا، فإنّ رجالنا نشأوا على غير ما نشأ هؤلاء، ولو أنّ لي ابنة لما دعوتها تخرج بعد الغروب وحدها، ناهيك أنّ رجال أميركا لا يخطر لهم أن يحدّثوا الأوانس بما هو خارج عن دائرة الحشمة، ولا أظنّ حكمها يشمل العامّة".


رد على الكاتبة الأميركية

وتقول الأميرة زينب إنها ردت على الكاتبة الأميركية بقولها: "صارحتها بأنّي ممّن يرين في التّقاليد أقوى روابط العصبيّة القوميّة والدّينيّة، وإنّي ممّن يؤثرون الاحتفاظ بكثافة الحجاب، وبساطة الملاءة، ومراعاة الأحكام الشّرعيّة الإسلاميّة. وأنّ ما ينسبونه لاحتكاك النّساء بالرّجال من الفوائد العائدة عليهنّ بالنّفع الجزيل لا أراه صواباً؛ لأنّ أضراره تزيد على منافعه، ومن كانت قصيرة الإدراك فاسدة التّربية لا تصلح أدباً بمعاشرة الرّجال، ولا هو بالشّرط في اكتساب الحكمة والمعرفة".

وتضيف الأميرة: "ثمّ قلت لها: تأكّدي أيّتها السيّدة أنّ بين العائلات من لا يزالون يحافظون أشدّ المحافظة على العادات القديمة، وإذا قسنا حالهم إلى العائلات المتفرنجة رأيناهم أسعد حالاً، وأوفر هناءً. أمّا هؤلاء المتفرنجات فقد جلبن الويل على بيوتهنّ، وبسطت التّعاسة أجنحتها السّوداء فوق أروقتهنّ، وفسد النّظام العائلي، وكثرت حوادث الطّلاق، وقد كان السّلطان عبد الحميد يعارض سياحة المسلمات في أوروبّا، أو يذهبن سرّاً، ولكن حينما أعلن الدّستور فسح لهنّ المجال، وكانت مخالطتهنّ للأوروبيين في بلادهم من أعظم العوامل على رفع الحجاب، وتقلّص العادات الوطنيّة، وما سبب انتشار الفساد اليوم إلّا نتيجة منطقيّة لمن نشأت على الحجاب، وأسفرت فجأة".


إهمال الرجال

تلفت الأميرة زينب إلى أن أحد أسباب ثورة نساء الأستانة هي طريقة معاملة الرجال للنساء، وتنقل عن سيدة غنية قولها: "إنّي لا آسف على تغيّر العادات القديمة لأنّ حياة الغنيات في الزّمن الغابر كانت حياة شقاء وبؤس، وقد كنتُ حين كان زوجي حيّاً امرأة توفّرت لها أسباب الرّخاء، أتزيّن وأتعطّر كلّ مساء فيدخل زوجي الحرم، ويصرف بضع دقائق ثمّ يخرج إلى السّلاملك، حيث تنتظره معيّته، ومن دعاهم من الزّائرين فيتناولون العشاء، ويعود بعد منتصف اللّيل، وأبقى مع زائراتي وبناتي في معزل، وعلى هذا الطّراز كانت معيشة جميع أعيان البلاد وهي خالية من اللذة العائليّة، ومعنى الاجتماع الحقيقي".

وتخلص الأميرة زينب إلى أن المتأمّل في اختلاف الآراء يستنتج "أنّ غلو الرّجال في هجر نسائهم أحد الأسباب المهمّة التي أوصلت نساء الأستانة إلى مثل هذا الغرور، حتّى تجاوزن الحدّ، وأصبحن ينتخبن أزواجهنّ من شبّان الإنكليز والإيطاليين والفرنسيين، هذا والشّر يتفاقم يوماً بعد آخر". لافتة إلى أن معظم هذه الفئة هي من نساء الاتحاديين اللواتي يلجأن إلى الغربيين خوفاً من النّفي.


جدل حول ملابس النساء

تخبرنا صاحبة الرحلة أنها شاهدت فتاة ليبية من طرابلس الغرب تدعى صفية هانم بنت علي قيراط باشا، عادت من ألمانيا تحمل شهادة في الطب، وتقول إنها: "تعلّمت الطب على نفقة الحكومة العثمانيّة، وما بلغت الشّاطئ حتّى رحّبت بها الجرائد والمجلّات، مذيعة مدحها، مزيّنة صفحاتها برسمها، وكانت الحكومة قد أرسلت على نفقتها كثيرات غيرها؛ لاكتساب العلوم والفنون، فكان حظّ أكثرهنّ أدنى من حظّ هذه الآنسة، وقد حصلت خمس فتيات غيرها على الشّهادة في فنّ الكيمياء، ثمّ بارحن الأستانة ليتمرنّ في فنّ التّحليل في معامل الغرب، وقد اختلفت آراء النّاس في أمرهنّ، وانشقوا إلى قسمين، قسم يتفاءل ويعلّق عليهنّ الآمال كباراً، وقسم يتشاءم ويخشى اشتداد هول الخطب، ممّا يرينا نحن الأمّة الإسلاميّة وجوب التعاضد والاهتمام بتهذيب الفتاة تهذيباً صحيحاً تقدّس معه تقاليد دينها الكريم، التي يرتكز عليها قوام بقائه".

وتروي لنا الأميرة زينب حادثة ضج بها مجتمع إسطنبول وملخصها أن رجلاً ضرب زوجته بفأس، فسأله رئيس المحكمة: "أظننت يا هذا أنّك تكسر حطباً، كان عليك أن تكتفي بصفعها مرّة أو مرّتين، ولو كان القانون لا يسمح بذلك أيضاً". وتقول: "قامت الصّحف لهذا الخبر وقعدت، وانبرى للميدان العلّامة شهاب الدّين أعظم كُتّاب الأتراك ومفكّريهم، فكتب مقالاً ينيف على عمودين، قائلا: هل يجوز لرئيس محكمة في القرن العشرين أن يوافق على ضرب امرأة، ثمّ ختم المقال بقوله: إنّ الرّجل من يخشى أن يرمي امرأة بوردة نظراً لنعومتها، وسموّ مكانتها". ومن القضايا التي تعرضها في رحلتها من ذلك الجدل الاجتماعي حول حقوق المرأة، قضية قبول المسلمات في المعهد الطبّي العثماني، أو رفضهنّ، حيث أشارت إلى أن السّواد الأعظم يرجو قبولهنّ، خصوصاً بعد اختلاطهن بالرّجال في قسم طبّ الأسنان والكيمياء وسائر الفنون، وتقارن بين انتشار الأفكار الغربية في الأستانة ودمشق، وتقول إنها في دمشق أبطأ بكثير، وحديثها يخص المجتمع المسلم تحديداً.

وتنقل لنا الأميرة زينب جانباً من الجدل التركي حول الملابس النسائية، "فمن قائل أن لا حقّ للدّوائر الرّسميّة الاشتغال بذلك، والتدخّل في الكماليّات؛ لأنّها قضيّة عائدة لذوق الفرد، ومن قائل أنّها مودية بثروة الأمّة إلى الزّوال، وآداب شبّانها إلى الفساد، وغيره يقترح الرّجوع إلى الملاءة المتّسعة، القديمة الزّي، وآخر يُشير إلى تحسين التربية، وإصلاح طرق التّهذيب، وتجنّب البحث من البزّات الحديثة التّافهة، والبعض يُحرّض الرّجال على العودة إلى الزّي الشّرقي ونبذ الأزياء الأجنبيّة؛ ترغيباً للنّساء وتنشيطاً لهممهنّ على الارتداء بالملاءة من الطّراز القديم".

ويبدو أن هذا الجدل كان يشكل أحد مشاغل الحكومة التركية في ذلك الوقت إذ أنها قالت كلمتها في الأمر "وفرضت على النّساء الارتداء بزي ملاءة بسيطة عليها نفس الوشاح، إنّما بصورة مقبولة خالية مما يمجه الذّوق السّليم من الزّخارف، تستر الجسم من الرأس حتّى القدم".

وتقول الأميرة زينب إن نظارة المعارف ستباشر "تطبيق هذه المادة بحيث تُرغم المعلّمات والطّالبات على الارتداء بهذا الزّي، وعلى ما أرى إنّ أمر شيوعه بين جميع طبقات النّساء صعب جداً، وقد يكون من المستحيلات، أمّا الوجه فسيبقى مكشوفاً، ويستعمل الحجاب مرفوعاً دون إسداله".


حفلة رقص

ومن الأمور التي لفتت نظرها حفلة رقص أُقيمت مؤخّراً يعود ريعها للهلال الأحمر، وتقول إنها المرة الأولى التي "جاهرت التّركيّات فيها بالرّقص حاسرات الرّؤوس، مرتديات بالحلل الفاخرة، مرصّعات بالجواهر الثّمينة، ولم يكنّ من قبل ظهرنَ بمثل هذا المظهر، اللهمّ إلّا في الحفلات العائليّة الخاصّة". وتقول: "شغلت حوادث هذه الحفلة النّاس، والصّحف الهزليّة المصوّرة برهة طويلة، فيالله من هذا التطوّر المُدهش بسرعته، نساءٌ كُنّ منذ بضعة أعوام يحجبن الوجوه، ولا يُشاهدن الرّجال إلّا من وراء قضبان الأقفاص، فأصبحت واحدتهنّ لا تكتفي بالجلوس إليهم، بل وترقص مع كلّ رجل، قريباً كان أو غريباً عن قوميّتها، على مرأى من زوجها وذويها، وقد أصبحنا لا نرى شاباً أو كهلاً أو شيخاً يُحبّذ الحجاب، وأمر استنكاره أصبح شائعاً عامّاً، ومن يُخالف ذلك كانت السّخرية والازدراء والاجتناب نصيبه.

وترصد صاحبة الرحلة بدايات النقاش المجتمعي لبعض القضايا المتعلقة بالنزوع نحو الهوية التركية فتقول: "حدث مؤخّراً حادث مهمّ في مدرسة دار الفنون أدّى إلى استقالة ثلاثة أساتذة لمّا خرج من أفواههم من الألفاظ الجارحة الشّعور القومي، يُستدلّ منه على أنّ نار الوطنيّة تزداد ضراماً في نفوس الطّلبة والطّالبات، فما كان منهم إلّا أنّهم أشهروا حرباً عواناً، شفاهاً وكتابة على أولئك الأساتذة، وأرغموهم بها على تقديم استقالاتهم".

وتضيف: "من عرف الأتراك منذ ثلاثين عاماً وجد فرقاً كبيراً بين شعورهم الوطني في الزّمن الماضي، والزّمن الحاضر. وهذا الشّعور يتجلّى بإعراضهم من كلّ شيء لم يوسم بالوسم التّركي، وهناك فئة تتطلّب محو الألفاظ العربيّة والفارسيّة الدخيلة على اللّغة التركيّة، إلّا أنّهم يرون استحالة ذلك، وقد ارتأى بعضهم الكتابة بالحروف اللاتينيّة، وقال غيرهم إنّ الألفاظ العربيّة والفارسيّة أمست تركيّة الصّبغة، ولا مانع من استعمالها؛ لأنّ اشتقاق لغة من غيرها أمر مشهور لا نعاب عليه".

المساهمون