الاحتلال كحرفة إزعاج

25 ابريل 2022
من الحواجز الصهيونية أمام بوّابات المسجد الأقصى (Getty)
+ الخط -

المسجد الأقصى مكانٌ جميل، ومفعمٌ بالحياة والروحانية، متوهجٌ بحجارته، مزهرٌ بالأشجار، وتنوِّع ألوان القِباب التي تروي آثارَ أممٍ خلَت وثقافات متنوّعة. أذكُر كيفَ دخلتُ هذا المكان يوماً، ولا أُخفي أنني كنتُ قلقاً، فهويتي الغزّاوية لم تسمح لي بدخول المسجد وتخطّي الحواجز إلى القدس، حسب شريعة الاحتلال الإسرائيلي.

وقد كنت مثقَلاً بالكثير على الصعيد الشخصي، ربّما أصعبها آنذاك إبعادي إلى غزّة وعدم إكمال دراستي في "جامعة بيرزيت" التي كنتُ أحد طلّابها. لكني غامرت وتركتُ مكانَ سكني في قرية بيرزيت، وقصدت المسجد الأقصى. كان صدى القدس قريباً، فقلتُ: لماذا لا أذهب وأرى؟ كان ذلك يومَ جمعة في رمضان، والمسجدُ يعجُّ بالمصلين، رجالاً ونساءً. لقد كان المشهدُ حقاً مبهراً، والمشاعر تجنحُ نحو عاطفة دامعة

القدس مدينةُ تناقضات، مباهجُ وقبائح، مباهج الفلسطينيّين وهم يُعمّرونها بحضورهم الكبير في الأسواق وساحة الحرم، والمسجد نفسه، علاوة على قاصدي كنيسة القيامة، والسائحين الكُثُر الباحثين عن خلاصٍ ما في هذه المدينة المعذَّبة.

الصوت الفلسطيني الشجاع أكثر ما يخشاه المحتلّ الصهيوني الجبان

وهناكَ قبائح جنود الجيش الإسرائيلي، وبنادقهم، ووجوههم وحركاتهم التي لا تنتمي لأصالة المكان، ولا لصلابة تاريخه المكتنز كشموخ الحجارة، فإذا كانَ هناك مكانٌ يُسمَع صوتُ حجارته، فهو في القدس. هنا في القدس قلوبٌ كثيرة متلهّفة للخلاص من الظلم والضيق، لكنّ الاحتلال يُمعن في الإزعاج، والاضطهاد وتشويّه المكان، محاصِراً الجمال والصفاء الروحي أينما وُجد. فالاحتلال، في النهاية، هو حالة تشويه تامّة لكلِّ ما هو أصيل وجميل في هذه الحياة، إنّه نقيض الحياة الهانئة. 

ومنذ وُجدت الصهيونية وهي متشبثة بالسيطرة، والبحث عن أصالةٍ ما مسروقة من الفلسطينيين وعلى حسابهم. إذ أرادَ قادتُها المجرمون أن يخرّبوا كلّ جميل على أرضنا، فالقدس والحرم القدسي الشريف بكامله لا يمتّان لهم بصلّه، وكلّ بحوث الآثار الرصينة تشيرُ إلى ذلك، بما فيها بعضُ ما خرجت عن ثقافتهم، إلا أنّهم مصرّون على مزاحمة الفلسطينيين في مكان عبادتهم الرمز، بغزوات استيطانيّة حَثيثة، وهكذا يصادرون ما تبقّى من فضاءات عزٍّ وتاريخ، تُذكّرهم بماضي الشعب الفلسطيني القديم وصموده الحديث. هذا الكيان الجاثم على أرضِ فلسطين لا يألُو جهداً في سرقة الأصالة، والثقافة الثرية قديمة كانت أم حديثة، إذ لا يستطيع احتمال أن يكونَ كلّ هذا الجمال فلسطينياً.  

الصهيونية لا تضطهدُ فقط، بل تزعجُ أيضاً، وتعاندُ الأرواح خصوصاً، ظنّاً منها أنّها بذلك تزرع الهزيمة في نفوس الفلسطينيين والعرب بشكلٍ عام. وهكذا تستمر في سرقة الماء ومحاصرة المدن، ومضايقة الناس، والاستحواذ على الجمال بزعمٍ دنيء أنَّ لهم الحق بمدينة القدس والأقصى الفلسطيني، والحرم الإبراهيمي والكنائس وآثار أُخرى لها من العظَمة ما لها. ورغم وحشيّة ما سبق، تستمرُّ نضالات شعبنا صوتاً شجاعاً وثقافةً حرّةً يعزّزان الصمود، ويبدّدان روايات الخداع والكذب الصهيونية الموغلة بإجرامها في كلّ ما هو حرّ وإنسانيّ وجميل.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون