استعادات

28 يوليو 2024
عمل للفنانة التشكيلية يارا زهد
+ الخط -
اظهر الملخص
- في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، شعرت وكأنني انتقلت إلى عالم الموتى، وتمنيت لو كنت طيراً أحلق بعيداً عن ضيق الأرض. جلست على حافة سور غير مكتمل البناء في الطابق السابع، أتحاور مع ضوء الشمس، ولم أعد أهتم بصوت الزنانة أو إطلاق النار.

- أشاهد كل يوم الدخان يتصاعد من مدينتي الجميلة التي سرق جمالها الاحتلال، وأتمنى لو أستطيع إخماد النيران. أشتاق إلى تفاصيل الحياة البسيطة في غزة، وأكتب عن غزة وأعلم أننا سنعود لنحيي جمالها.

- في ليلة عادية، استيقظنا على أصوات الحرب التي أيقظت جميع القطاع. توقفت الحياة في المدينة، وبدأت الأسر تجهز حقائبها الصغيرة للهروب. ودعت منزلي ومرسمي بدموع، وتركت كل شيء ورحلت على أمل العودة بعد يومين.

الساعة الثانية بعد منتصف الليل، إذ بالدخان يلتفّ من حولي وكأنه أودى بي إلى حياة أخرى، إلى عالم الموتى. ما أن خف قليلاً حتى بت أتفقد نفسي وأحاول أن أرى بوضوح، فعلمت أنني لا زلت في عالمنا، أتساءل: كم مرة سنموت ونحن أحياء؟ كم مرة سنزور العالم الآخر ونحن مستيقظون!

أتمنى لو أنني طير لدي أجنحة أحلق حيث ما شئت، أعيش في السماء كلما ضاقت بي الأرض، لدي أمل قريب سنحلق جميعنا عائدين إلى منازلنا هناك.

أنتظر تسلُّل النور إلى هذه البقعة الداكنة لأهرب إليه، صادفته في صباح يوم الثلاثاء الساعة الثامنة وتسع دقائق، ها أنا أجلس على حافة سور غير مكتمل البناء في الطابق السابع، أتحاور أنا وضوء الشمس الذي يتسلل ليضيء عتمتنا كل يوم ويُبَلغنا أننا لا زلنا أحياء وسط هذا الموت، لم أعد أهتم لصوت الزنانة من فوقي فهي لا تَبعُدني سوى أمتار وصوتها يجتاح أذني من شدة إزعاجه وقربها، أراها جيدا بكل وضوح لكن لم أعد أكترث! لم اعد أهتم بصوت إطلاق النار والاشتباكات من حولي، فها أنا أستمع إليها الآن وأراها ولا يهتز لي بدن، فلم أعد أخاف الموت، فنحن جثث حية في هذا العالم، لا أحد يبالي ونحن لم نعد نبالي. من ذاق الموت مئة مرة لن يؤثر به الموت الأخير الذي سيختفي فيه هذا الضوء الذي أتحاور معه الآن.

أعيش في السماء كلما ضاقت بي الأرض، لدي أمل قريب سنحلق جميعنا عائدين إلى منازلنا هناك

أشاهد كل يوم الدخان يتصاعد من مدينتي الجميلة التي سرق جمالها هذا الاحتلال، دخان أسود ضبابي يرتفع يُخلف وراءه آلاف الشهداء والجرحى والبيوت المهدمة. أود لو أنني أستطيع أن أُخْمِد هذه النيران وأحميكِ يا مدينتي العزيزة، وددت لو أنني أستطيع أن أغلق عليك في صندوق مليء بالنعيم وليس صندوق الجحيم هذا الذي أنتِ في أسره الآن!

عزيزةٌ أنتِ على قلبي كأبي وأمي، جميلةّ أنتِ كتفتح الأزهار في الربيع، كغروب الشمس، مثل سرب طيور تُحلق فوق البحر، والغيوم تَخَلفها، حنونةٌ أنتِ كقلب أمي، رائحتك فواحة كرائحة أكلاتك الشهية، أشتاقُ إلى خُبز أمي بين جدرانك يا حبيبتي، أشتاق للسير في شوارعك البسيطة، إلى استنشاق هوائك النقي المفعم بالحب، أشتاق إلى عدّ النجوم في ليلةٍ هادئة، إلى الأحبة الذين رحلوا ولن يعودوا،  إلى الجلوس على شاطئ بحرك المريح، أشتاق لرائحة المخابز خلال المشي الساعة السادسة صباحاً، أشتاق للكثير والكثير الذي لا يحصى. أشتاق للعودة إليك يا حبيبتي يا غزة، أكتب عنك اليوم وأعلم أنني سأعود، سنعود جميعاً لِنُحيي جمالك الذي تم أسره، سنعود لتنهضي من جديد وتبقي شامخة في هذا العالم، أحببتك وسأبقى متيمة في حُبك يا مدينتي الحبيبة.

■ ■ ■ 

بعد أن كنت تلك الفتاة المدللة التي تستيقظ من فراشها الدافئ المفعم بالأمان وتعيش طقوسها البسيطة التي تسعدها كل يوم، ها أنا اليوم أستيقظ كل صباح أجمع الحطب وأضعه في وضعية مناسبة للاشتعال بعد أن عانيت عدة أشهر لتعلم إشعال النار بسبب عدم توفر الغاز، بِتُ أستيقظ اليوم دون مبالاة بعيداً عن سريري الدافئ وجدران منزلي، وأشيائي المفضلة. أجلس قبالة النار لصنع أي مشروب دافئ فور استيقاظي، بدلاً من استنشاق رائحة الحياة أبدأ نهاري باستنشاق دخان النار. يتجهز مشروبي الساخن وعندما أطمئن أنه بات جاهزاً أُخمد النيران وأسكبه في كأس غريب عن كؤوسي المفضلة، وأعود إلى فراشي الأرضي الذي استعرته من أصدقاء لي، بين جدران غريبة لونها رمادي، بل هي حجارة مصطفة تسمي نفسها جدار، ثم أمسك قلمي وأوراقي النازحة معي من بيتي، ونبدأ بارتشاف مشروبي وأرتشف معه لسعة من رائحة الحطب، ثم أمسك بقلمي وأتركه يَخِطُ كل تلك المشاعر في داخلي على ورقي الخاص. ونُنهي يومنا بلوحة فنية خارج مرسمي. أنتظر أن أعود إليه لأعلق هذه العقبات التي نمر بها بجوار رسماتي اللاتي حُرقن على الحائط.

تعزُ عليّ بلادي، مدينتي، تعزُ عليّ ذكرياتي، تعز علي حياتي الطبيعية، أيامي السابقة. في العيد يعز عليّ كل ذلك. تفاصيل تلك الحياة التي كانت. عيدنا في المنزل، زيارة أحبائنا في بيتنا، تجهيز حلوى العيد وعيدية الأطفال. أتألم كثيراً وأشعر أنني غريبة في هذا العيد أو أنني أضعت الطريق.

أخاف الرد على أي اتصال هاتفي بعد ذلك الاتصال الذي بلغني بفقدان عائلة كبيرة من أحبتي. أخاف من تلك الرسائل التي تأتي بخبر مفاجئ حول استشهاد أحد أصدقائي الأعزاء، أخاف دخول مواقع التواصل الاجتماعي بعدما رأيت شهداء مجهولي الهوية أعرفهم! من بعد فقدان أكبر وأهم المدرسين الأعزاء الذين علموني في المدرسة. أخاف الفقد كل يوم فهو لا يرحم ولا يعطي إنذاراً سابقاً بالوداع!

أخاف الرد على أي اتصال هاتفي بعد ذلك الاتصال الذي بلغني بفقدان عائلة كبيرة من أحبتي

لا زلت أحلم بهم جميعاً أحياء، لا أستطيع التصديق أنهم جميعا رحلوا! فالذكريات في عقلي لم ترحل، تتوارى وتتكشف على مشاهد عن أوقاتنا الممتعة وكأن جميع من فقدتهم جالسون معي الآن يشاركونني الحديث، لا زلت أرسل الرسائل القصيرة إلى صديقتي الشهيدة وكأنني عاجزة عن تصديق وفاتها! أحاول يومياً أن أتصل بها علها ترد ويكون ذاك الخبر الذي وصلني عبر رسالة كاذباً.

■ ■ ■ 

كانت تلك ليلة عادية. نمنا واستيقظنا كما في كل مرة. بدأت يومي منذ الخامسة صباحاً، أعددت مشروبي واتجهت إلى مرسمي، قمت باختيار لون الورقة وألواني المفضلة، وبدأت يدي تخط مشاعرها المفعمة بالحياة عبر تلك الألوان، إلى أن سمعنا أصواتاً ليست عادية أيقظت جميع القطاع من قوتها ورهبتها، كل شخص كان ذاهباً إلى العمل عاد أدراجه، توقفت الجامعات والوزارات وجميع المنشآت في المدينة عن العمل. أغلقت المحلات. بدأت الأسر تجهز حقائبها الصغيرة التي تحتوي على الأوراق المهمة فقط والأشياء الضرورية الصغيرة. في حال اقترب منا الخطر نفر هرباً برفقة هذه الحقيبة. إنها الحرب، زارتنا من جديد، الزيارة التي لا أحد يحبها ولا أحد يرغب برؤيتها أو عودتها إلى مدينتنا.

تنقلب الموازين في ليلة واحدة فقط. سأبلغ الثانية والعشرين خلال هذه الحرب. عشت طفولتي جميعها داخل حروب متفرقة، وفترة العشرين التي يفترض أنها ربيع العمر ها أنا أقضيها داخل حرب جهنمية، دمار يلحق بالآخر دون شفقة، ونحن لا نملك سوى الدعاء وإعادة بعث مدينتنا. تجهزنا جميعاً مثل كل بيت في ذلك اليوم وجلسنا نستمع إلى الأخبار علها تكون يومين وتنتهي ولا يحصل أي أذى. لكن هذه المرة لا! كان كل شيء مختلفاً تماماً! ليست حرباً كأي حرب أخرى ولا حتى تشابه أي حرب عالمية، إنها الأشرس على الإطلاق!!! لا يوجد فيها سوى خيارين: إما موتٌ أو مَوت.

لم نرحل أبدا من منزلنا في أي حرب سابقة، إلى أن جاء اتصال من جيش الاحتلال بأمر إخلاء المنطقة لأنها خطرة! منذ تلك اللحظة وأنا أشعر باقتلاع قلبي من مكانه، فكيف لنا ترك كل ما نملك ونرحل إلى أماكن لا نعرفها! كيف لي أن أترك مرسمي وعالمي وجميع ما عملت عليه خلال هذه الأعوام وأرحل. البيت كان حياة أخرى. 

مجبرون على ذلك! 

حاولنا الهرب وكان صوت القصف والدمار من حولنا ورائحة الدخان التي لم تنقطع خلال تلك الأيام، جميع المنطقة كانت هاربة إلا نحن لم نجد من يساعدنا على الخروج والنجاة، في تلك اللحظة كنا نحمل بعضاً من الأمتعة والأغراض المهمة من المنزل وتركنا الكثير منها بغية تقليل الثقل علينا إذا اضطررنا إلى الهروب مشياً، ودعت منزلي والدموع تذرف من عيني كينبوع انفجر للتو من الأرض، قمت بتغطية لوحاتي وترتيبها وجمع ألواني وكُتبي ووضعتها في مكان ما قد يكون آمناً لا تتسرب إليها فيه الأتربة إذا تكسرت النوافذ والأبواب. التقطت لها صورة أخيرة. لحظة التقاطها لم أكن أعلم أنها الأخيرة! 

الدموع تغرغر في عيني وأنا أخرج من المرسم. كنت أتأمله إلى أن حفظت كل زاوية فيه، كل قصقوصة ورق، كل فرشاة وقلم، لم يكن مجرد غرفة بها أمتعتي إنما كان حلمي الذي لم يكتمل وتوقف منذ ذلك اليوم. تركت كل شيء ورحلت أنجو بروحي على أمل العودة بعد يومين لاحتضان جدران بيتي كما كنا نعتقد.

اليوم مضت سبعة شهور، مررنا بجميع الفصول ولم تنته الحرب ولم أعد إلى مرسمي ولا إلى بيتي، لا زلت أنتظر! وسأنتظر حتى وإن عدت إلى ركام. أغفو كل ليلة وأنا قلبي ممتلئ شوقاً وحلماً للعودة ليس إلى مدينتي فقط إنما للعودة إلى الحياة!

كنت سأكون الآن أعبث بألواني وفرشاتي ويدي منغمسة بالألوان والحياة! كان من المفترض أنني أتجهز لتقديم مشروع تخرجي من كلية الفنون الجميلة والتفرغ بعدها للفن، كنت أنتظر هذه اللحظة بشدة، لكن كما أخبرتكم من قبل فإن حياتي توقفت منذ تلك الليلة في العام الماضي حتى اللحظة. العمر توقف. لم تعد هناك جدران تأوينا، صارت الخيام المتراصة في الشوارع بيوتنا! القمامة تملأ الشوارع في مخيمات النزوح حتى كادت تغلق الطريق من كثرتها! دخان نار الحطب التي نوقدها من أجل أن نطهو عليها بسبب انقطاع الغاز، صوت الغارات من فوقنا والصواريخ التي تسقط ونفزع منها نهاراً وليلاً! صوت الإسعافات الذي لا يتوقف يحمل المزيد من الجرحى والشهداء.


يارا زهد (فنّانة تشكيلية من غزّة)

المساهمون