لا يوجد مثال صارخ ومدوّ في ما يخصُ النفاق الغربي، أكثر ممّا هو الحال تجاه فلسطين والوضع في غزّة في العصر الحديث. فلطالما لعبت الأنظمة الغربية، وأقصد الدول الأقوى فيها، مثل أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، على عُقَد لُغوية معيّنة من قبيل نشْر الديمقراطية والتخلُّص من نظام شرّير. العراق وليبيا مثالان واضحان على ذلك، حيثُ شُحذت هممٌ لُغوية كثيرة تتغنّى بالحرّية والتنوير ونشرهما، بينما كانت النتائج نزيف دم عربيّ، وفوضى عارمة إلى ما لا نهاية، في هذه الدول التي تعاني الويلات إثر تلك التدخّلات البغيضة.
وفي حالة غزّة وفلسطين عُموماً، تبرُز اللّغة كحقل مراوَغة غربيّة بامتياز، ومفهوم المراوَغة في اللّغة هو مبحثٌ مهمّ أدلى فيه بدلوه عالم اللّغويات المجتمعية ياسر سليمان معالي، حيث أشار في كتابه "اللّغة العربية في ساحات الوغى: دراسة في الأيديولوجيا والقلق والإرهاب"، الصّادر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، إلى أنّ "اللّغة مفهوم مراوِغ، إذ يصعب ترسيم حدودها تاريخياً أو جغرافياً، كما يصعب تحديد عدد لهجاتها، أو الاتّفاق على كامل عناصر متنها أو حيثيات وضعها. وإنّ معاني اللّغة الاجتماعية تختلف وتتباين من عصر إلى عصر، ومن فضاء إلى فضاء، ومن سياق إلى سياق".
هذا تعريف موفَّق للّغة لكونه اعترافاً ضرورياً بظاهرة لطالما تناطح علماء كُثر على تعريفها، واحتكارها بتعريفات تميل إلى جهة فكرية أو أُخرى، وكأنّ أحداً يقدر أن يعطي تعريفاً جامعاً مانعاً إلى آخر الزمان لهذه الظاهرة المركَّبة والمعقَّدة.
في حالة فلسطين، تصبح اللغة حقل مراوَغة غربية بامتياز
لكنّ المراوَغات اللّغوية، التي نراها كثيراً في المجال السياسي، تدخل في نطاق الشرّ المطلَق والبغيض، حين تتلاعب اللّغة وتراوِغ على حساب حياة البشر، وقُدرتهم على البقاء جسديًاً وككينونة اجتماعية وسياسية. فها هي غزّة تُطحن وتُباد موتاً ودماراً كلّ يوم بأدوات القتل والبطش والدمار الصهيونية، فلا نرى الغضب ولا التفاعل المناسب مع الأحداث من وسائل الإعلام الغربية.
والعكس صحيح؛ حيث نرى المراوَغة من خلال التركيز المُتكرّر على عملية المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وكأنّ تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بدأ وانتهى في ذاك اليوم، فأصبح كلُّ ما بعده هوامش تُبرَّر من خلالها أقصى الجرائم، من التعدّي على المستشفيات إلى تدمير الجامعات، إلى قتل عائلات بالجملة، إلى منع الطعام والشّراب والدواء عن مليونين وثلاثمئة ألف شخص.
اللّغة حقلُ مراوَغة غربية بامتياز في هذا السياق. والمراوَغة هنا من نوع شرّير بشكل ممنهج وفجّ، فلا يخفى على أحد القهر والظّلم الدفينان في خطاب الساسة الغربيّين من الدول المذكورة تُجاه غزّة والشعب الفلسطيني بشكل عام.
يطلّ علينا الحبر اليهودي الأكبر في بريطانيا، إيفرايم ميرفيس، في مقالة له بصحيفة "سنداي تلغراف"، يُشيد بـ"إسرائيل"، ويُسمّي مجازرها في غزّة بـ"الحرب العادلة"، وينعت بأشدّ العبارات أولئك الذين يُشيرون إلى مجازرها بالإبادة، وكأنّه لا يرى التعمّد المقصود لقصف البنية التحتية من مستشفيات ومدارس وجامعات، والقتل بالجملة لعائلات بأكملها، واستهداف الأطفال المريع، وكأنّه لا يرى، أو لا يريد أن يرى، أنّ أكثر من اثني عشر ألفاً من الأطفال، وآلافاً من النساء والأبرياء، قتلتهم "إسرائيل" في هذه الإبادة الجماعية.
يرتكب هذا الرجُل مقتلة لغوية بحقّ الفلسطينيّين ومناصريهم، ويُعلي من شأن القتَلة، فقط لأنّهم يدينون بديانته، لا غير. لا يمكن أن يكون هذا رجُل دِين حقّاً أو "رجُل سلام"، أياً كانت ديانته أو ملّته، إنّما هو بوق من أبواق الإجرام الصهيوني الذي لم يتوقّف منذ النكبة. من سيصدّق أيّة موضوعية أو "نزاهة" غربية بعد ذلك؟
وحين "بطع البالون"، كما نقول باللّهجة الغزّاوية، رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، المُجرم بنيامين نتنياهو، وعبّر بشكل لا لبْس فيه عن رفضه ما يُسمّى "حلّ الدولتين"، وهو حلّ مستحيل في ضوء الوقائع الصهيونية على الأرض الفلسطينية، تجاوبت أنظمة الغرب السياسية مع هذا الرفض بمراوَغات لغوية ليّنة، لا تتناسب أبداً وتلك التي يستخدمونها مع عوالم عربية وإسلامية، أو مع روسيا وغيرها، حين لا تتبع سبلها السياسية. فالرئيس الأميركي حاول، من خلال مراوَغة لغوية، أن يُخفِّف من وطأة رفض نتنياهو، معتبراً أنّ هناك صيغاً كثيرة لحلّ الدولتين، ونتنياهو لا يُعارضها، وكأنّه يُريد أن يقول إنّ نتنياهو كان لا يعني ما يقوله حين كرّر رفضه لحلّ الدولتين. فلا يجب التنازل عن شمّاعة حلّ الدولتين، فهي شمّاعة مناسبة لتبرير المجازر والاستمرار الغربي في دعم "إسرائيل" والوقوف بجانبها.
أمّا إحدى المراوَغات اللُّغوية الأُخرى، وهي كثيرة، فقد أتت من وزير الدفاع البريطاني (الصهيوني حتّى النخاع بلا شكّ)، حين أشار إلى أنّ رفض نتنياهو لحل الدولتين "مخيِّب للآمال"، وكأنّه يشير إلى طفل مدرسة لم يقم بواجباته المدرسية، وليس إلى مجرم يحتقر كلّ ما هو عربي ومسلم ومختلف وحرّ في هذا العالم، ويمارس القتل الإبادي والتدمير الإرهابي في غزّة والضفّة الغربية يوميّاً.
وهكذا بينما تُمعن "إسرائيل" في إماطة اللثام عن وجهها، من خلال مجازر وعربدات لا لبس في إجراميتها وفجاجتها، وتصبح لغتها كتلك التي يستخدمها رئيسها هيرتزوغ، لغةً هلامية مضلِّلة إجرامية إلى أبعد الحدود، كقوله الفجّ "إنّ إسرائيل تحارب بالنيابة عن الكون ضدّ حماس"، يلجأ الغرب إلى مراوَغات لغوية مفجعة لتبرئة "إسرائيل"، وللتغطية على جرائمها.
وبالطبع، ليست اللّغة حتماً حقل مراوَغات، وممّا لا شكّ فيه أنّ من وظائف التعليم الأخلاقي والحرّ، كيفية الاستخدام والتوظيف السليمَين للّغة، كما فعلت دولة جنوب أفريقيا، وغيرها من الأحرار في العالَم، من خلال توثيق الجرائم الإسرائيلية الغربية المروّعة ضدّ الشعب الفلسطيني، والصدح بالحقّ مهما كانت التبعات أمام المؤسّسات الدولية المعنيّة المنتهَكة من قبل القوى الغربية الكُبرى.
اللغة من فم وعلى يد هؤلاء الأحرار من جنوب أفريقيا، وبعض دول أميركا اللاتينية وغيرها، هي حقل صحّة، وإنسانية، ونُبل، وليست مراوَغات شرّيرة على شاكلة تلك التي تخرج من أفواه بعض السياسيّين الغربيّين في الدول المتنفّذة، وبالطبع "إسرائيل" التي تقبع في الحضيض بإجرامها وعنجهيّتها التي لا حدود لها قولاً وفعلاً.
* شاعر وأكاديمي فلسطيني مُقيم في لندن