إبادات ما بعد الحداثة

12 مايو 2024
طفلة فلسطينية تنتظر العلاج في مستشفى برفح، 8 مايو/ أيار 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- حروب ما بعد الحداثة تتميز بالتطور التكنولوجي واستخدام الذكاء الاصطناعي، مما يجعل الأهداف غير ثابتة ويزيد من صعوبة تحديد العدو، وتُظهر تغييراً جذرياً في طريقة القتال مقارنة بالحروب التقليدية.
- تُعيد هذه الحروب تشكيل مفهوم الحرب لتصبح غاية في حد ذاتها، بعيداً عن الأهداف السياسية التقليدية، وتُظهر كيف أن التكنولوجيا والأسلحة المتقدمة قد غيرت طبيعة الصراعات، مما يُعقّد من إمكانية تحقيق سلام دائم.
- يُسلط النص الضوء على دور الأجيال الجديدة والتكنولوجيا في تحدي النخب العالمية وإعادة تشكيل الوعي السياسي، مع التركيز على الدمار في غزة وإفلاس الوحدة العربية، مما يُثير تساؤلات حول إمكانية تحقيق تغيير حقيقي.

لا يتوقّف الحديث في المجلات والصحف الغربية عن حروب ما بعد الحداثة، وما تتّسم به من اختلافٍ عن الحروب السابقة التي كانت تهتدي بخرائط واضحة وتدرس بنك أهداف ثابتة وتستهدف عدوّاً محدداً. ويتجلّى هذا الاختلاف أيضاً في أنَّ الأسلحة صارت أكثر ذكاء والأهداف لم تعد ثابتة، كما أنّ تحديد الأهداف صار يستند إلى أدوات جديدة، مثل أنظمة الذكاء الاصطناعي التي وُظِّفتْ في القتل والإبادة، بحسب صحيفة غارديان البريطانية التي ذكرت أنَّ جيش الاحتلال الإسرائيلي استخدم أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة لتحديد أهداف في غزّة، خاصة النظام الذي يُطلق عليه اسم "لافندر"، وكانت النتيجة المزيد من القتلى في صفوف المدنيّين.

تتطوّر الأسلحة بتطوّر التكنولوجيا، وينعكس هذا التطوّر على الحروب، وتتجلّى فحولة عصرنا العسكرية في صواريخ خارقةٍ لسرعة الصوت ومسيّرات فتّاكة وأجهزة اتصالٍ ورصد ذكية وتحديد للأهداف وتصوير غيّرت طبيعة المجابهة العسكرية، ما دفع كثيراً من البلدان إلى الشروع في ترتيب أولوياتها في أفق ما بعد الحداثة العسكري.

وتنبغي الإشارة إلى أنّ مصطلح "ما بعد الحداثة" مُبهمٌ لكثيرين، ويصعبُ تحديد المقصود به أحياناً، وصار لدى البعض أكثر ارتباطاً بتوصيف الحروب التي تُسْتخدم فيها أدوات التدمير والقتل والمعلوماتية في حروب استباقية للتعامل مع ما يسمّيه نعوم تشومسكي "جيوب المقاومة" في العالم، أو مع أهداف "معادية"، ومن أجل استئثار لا سابق له بالموارد.

لا تجد النخب المهيمنة على العالم الآن ما تتباهى به سوى الصواريخ الخارقة لسرعة الصوت والمسيّرات والروبوتات العسكرية، وصارت خريطة العالم خريطةً عسكريةً خالصة، وعليها يتمُّ تحديد الأهداف أو أماكن النفوذ أو الدول والجماعات المنبوذة أو المارقة كما تُسمّى في قاموس القوة السائد.

حروب تخلو من السياسة وتهدف إلى التدمير الخالص

وابتُكرت مصطلحات في السياسة تحوّلت إلى نعوتٍ تشير إلى كيانات في العالم بعينها تعرّفها وتدمغها بدمغة "الإرهاب". وإذا كانت مرحلة ما بعد الحداثة قد اتسمت بموت الثقافة كرؤية مفسِّرة للعالم ومغيِّرة له، وتحوّلَ المثقّفون فيها إلى موظّفين اختصاصيّين يخدمون مؤسّسات القوّة القائمة، كما لو أنهم آلات مسخّرة، فقد سمحَ التطوّر في عصرنا أيضاً بوجود وسائل اتصال وتواصل وقنوات معلومات تمكّنت من توليد فعل بشري معارض لتوجّهات النخب العالمية التي تذكي الحروب والصراعات من أجل مصالحها الأنانية والضيقة، وما المظاهرات التي تقوم في جامعات العالَم إلا دليلاً واضحاً على ذلك.

يمكن أن نصف عدوان غزّة بأنّه "ما بعد حداثي"، لأنّ الأسلحة الحديثة الفتاكة تلعب دورها فيه، كما أنَّ الإعلام ينقل المعركة إلى المنازل في أنحاء العالم، فنحن كمشاهدين لشاشة الرعب في الأمكنة كلّها نرى كيف تُدمّر الأبنية السكنية وتتناثر الأشلاء وتتكدّس الجثث وتتحوّل المدينة إلى صحراء من الأشلاء فوق جثث الأطفال والنساء والشيوخ. فيما تتمُّ عمليات اغتيال عابرة للحدود في سورية ولبنان والعراق وإيران.

قال الفيلسوف الفرنسي جون بودريار في كتابه "حرب الخليج لم تقع" إنّ هذه الحرب كانت حرباً على الشاشات لا على أرض الواقع. كانت الانفجارات تحدث وتُعرض صور مشاهد الدخان والنار وهياكل الدبابات وبطاريات المدفعية المحترقة، لكنّنا لم نكن نرى القتلى، وخاصّة على شاشات إعلام النخبة. بالتالي كانت هناك معركة حدثت على الأرض سُفكت فيها الدماء، ومعركة أُديرت على الشاشات وقُدّمت بالشكل الأيديولوجي والإعلامي المناسب.

إلا أنَّ التطور التكنولوجي المتواصل الذي يشهده عصرنا حرّر الإعلام من آليات التحكّم والرقابة وسمح للناس أينما كانوا بأن يشاهدوا المشهد الواقعيّ للقتل اليومي وللدمار المنظّم للإجرام المُنفلت من عقاله، الذي يُنذر بخطر جسيم لأنّه لم تعد هناك ضوابط أو قوانين أو معادلات تتحكّم في ما يجري.

هل تعبت أجيالنا إلى هذا الحدّ أم أنَّ المفاجآت قادمة؟

تتّسم حقبةُ ما بعد الحداثة بموت السياسة، وبكون الحرب غايةً في حدّ ذاتها. هذا ما أكّدته الأنثروبولوجية الأميركية جوليا إلياشار، والباحث المختص في تاريخ الشرق الأوسط، توماس ماشتناك، في مقالةٍ نشراها بالإنكليزية في موقع جدلية، بعنوان "الحرب المقدّسة اليوم"، يطرحان فيها أفكاراً تلقي الضوء على الكثير من الأحداث الحالية. وبحسب ما يقولانه لم تعد الحرب استمراراً للسياسة بوسائل أُخرى كما نظّر كلاوزفيتز، ذلك أنَّ نخباً فاسدة وأنانية وحاقدة تاريخياً في الغرب تقود عمليات حربية وتديرها لتحقيق مكاسب آنية على حساب الشعوب.

ويضيف الباحثان أنَّ الحرب الحالية التي تُصنَّع كامتداد للحروب الصليبية تخلو من السياسة وتهدف إلى التدمير الخالص وإلى إبادة "العدوّ" الذي يُصوَّر بطريقة توضّح استحالة العيش معه، بالتالي إن أيَ سلام ينجم عن هذا التدمير المنظّم هو "سلام المقبرة". ويتّهم الباحثان الغرب بأنّه يدعم الإبادة الجماعية في غزّة ويشارك فيها ويقتل السياسة ويطرح الحرب بديلاً مطلقاً لها. 

يعيدنا هذا إلى ما قاله شامويل إل. جوردون في مقال نُشر في صحيفة معاريف الإسرائيلية عام 2007، بعنوان "خصائص حرب ما بعد الحداثة"، فقد ذكر أنَّ حروب ما بعد الحداثة تُهدّد أمن "البلد الصغير إسرائيل"، ولهذا يجب على "جيش الدفاع الإسرائيلي" أن يبني قوّةً ناريةً جويةً من أجل التعامل مع أهداف غير ثابتة ومجموعات تمتلكُ القدرة على التنقّل واستخدام أسلحة جديدة وأجهزة اتصالات متطوّرة.

هذا ما تفعله "إسرائيل" الآن من خلال قصفها المُتلاحق للأهداف على رقعٍ جغرافية موزّعة بين سورية ولبنان والعراق وإيران، في عمليات عابرة للحدود، ويمكن أن يطاول ذراعها الجوي أيّة دولة عربية دون أي خوفٍ أو تردّد. ومن الجلي أنّ وحدات الجيش الإسرائيلي التي تقوم بعمليات القتل والتدمير والإبادة الجماعية في غزّة مُنظّمة على أساس حرب ما بعد الحداثة، إذ لم تعد هناك أهداف سياسية للحرب ولا أهداف عسكرية ثابتة على جبهات محدّدة، ولا تبريرات مُقنعة حتى لِمن يعدّون أنفسهم من داعمي "إسرائيل". بات الهدف هو إبادة العدوّ، الذي هو السكّان، وتدمير شروط وجوده، بحسب إلياشار وماشتناك.

تشهدُ أزمنتنا سباقَ تسلّحٍ غير مسبوقٍ وتأمين ميادين معارك لاختبار الأسلحة على الدوام، دونما اكتراثٍ بالضحايا المدنيّين الذين يسقطون وبظروف الحياة اللاإنسانية التي يُدْفع إليها المدنيون في بعض المناطق في العالم. لقد أدّى إلى تفاقم ظاهرة الهجرة التي تُمارس حربٌ ضروس عليها لضبطها ولإبقاء المدنيّين في أماكن النزاع، ربّما من أجل قتلهم والتعامل معهم كفائض سكاني دون تدخّل حقيقي لحلّ النزاعات على أسس عادلة.

والفاجع في هذا كلّه هو أنَّ التدمير غير المسبوق في غزّة (والذي لا يهمّ تحت أي مسمّى نضعه) صار واقعاً فاضحاً يخترق التسميات كلّها ويشكّك في مصداقيتها، فهو يجري على مدار الساعة، منقولاً على الهواء، وأدّى إلى تحوّلات شخصية اتسمت بالبطولة في بعض الأحيان في الغرب، وحرّك وما يزال الأجيال الجامعية الجديدة ووسّع الوعي السياسي والتضامن مع الآخر عالمياً.

إلا أنَّ المخيّب للآمال في هذا كلّه هو أنَّ البلدان العربية، بجيوشها وحكوماتها وجامعاتها وجوامعها وسفاراتها في العالم ونخبها السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية والإعلامية وميزانياتها وأحزابها العلمانية أو القومية أو الوطنية أو الدينية، لم تستطع التوحّد على مشروع للاتفاق على عمل إنساني نبيل يضع حدّاً لهذا الموت اليومي، بينما نجد النفاق قد تجاوز الحدود لدى بعض بلدان المنطقة، التي تتشدّق حكوماتها بالحديث عن التضامن مع غزّة، وشجب العدوان، بينما تقوم السفن بنقل الوقود يومياً إلى آلات القتل والإبادة. والسؤال الذي يجب أن يُطرح هنا هو: هل قطع العلاقات التجارية مع "إسرائيل"، بعد كلّ هذا الدمار والقتل، سيجدي نفعاً؟ ولماذا لم يحدث منذ البداية؟

لا شك في أنَّ العالم العربي بطاقاته الحيّة وتنوّعه الهائل وثرواته وخبراته وأجياله الذكية معطّل وغير قادرٍ على القيام بمبادرة تُثبت حضوره في مجاله الجغرافي أوّلاً، ومن ثمَّ في العالَم، ثانياً. إنَّ ما يفعله العالم لنا أكبر بكثير ممّا نفعله له، والسبب هو القيود السياسية  والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والدينية المفروضة علينا، وضعف حسّ التضامن الكوني لدينا، وعدم الانتباه إلى أنَّ تضامناً مع قضايا العالم سيبني شبكة كونية من المتضامنين ويقوّي التيار الاحتجاجي المعارض للحرب العدوانية. فهل تعبت أجيالنا إلى هذا الحدّ، أم أنَّ المفاجآت قادمة وسط هذا الإفلاس الأخلاقي العربي الرسمي؟


* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة

المساهمون