من أشهر الأمثال الإسبانية المتداولة، المَثَلُ الذي يقول، إذا ما ترجمناه حرفياً، "للألوان أذواقٌ"، والذي يكاد يَكون قرينه في العربية: "للناس في ما يعشقون مذاهب". لقد خطر ببالي هذا المثل وأنا أعيد قراءة قصّة "تقرير بْرُودِي" للأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، عند ذِكره في مستهلّ الفقرة الثانية من القصّة: "سأترجِم التقرير المؤلَّفَ بِلغة إنكليزية لا لون لها بأمانة".
يَلفت بورخيس انتباه قارئه، ضِمْناً في عبارته، إلى أن للغة ألواناً، في معرض تحدُّثه عن المهمّة التي سيُنفّذها، ويُقرّ جازماً بأنه سيلتزم الأمانة في الترجمة، أي أنه سيُنتج ترجمةً وفيَّة "للتقرير" بحيث ستكون هي بدورها لا لونَ لها، شأنَ ما اعتَمدَتْه أصْلاً لها.
ويحقّ لنا ــ قبل أن نتساءل عن نوع الترجمة التي ستكون عديمة اللون ــ أن نستفسر عن طبيعة الألوان التي قد تحويها اللغة. ويبدو أن أقرب ما ينصرف إليه الذهن هو إمكان الوقوف على تنوُّعاتٍ فيها وتنويعات، تُتَبيَّن في التنغيم والنبرة والجرس واللحن وغيرها، وينبني على كلامه، كذلك، توافُرُ الكتابة على ألوان هي الأخرى على غرار أصلها، الذي هو اللغة، بل إن الكتابة تجتهد في التجسيد الخطّي لمنطوق اللغة، وأنها ألوان لا تنحصر في ما ذُكِر آنفاً فحسب، لكونها تتحوَّل إلى أشكال من الخطوط الثقافية والفنّية، التي تتجلّى فَنّاً يُعرَف بفنّ الخطّ، الذي له مدارسُه، والذي يُصاغ في موادَّ سائلة يختصّ بها فنٌّ آخَرُ هو صناعة الأمِدَّة (جمع مِداد).
للمؤلّف وجوه متنوّعة بعدد ألوان الكتابة عند مترجميه
الحقيقة هي أن الكتابة ــ بصفتها نشاطاً إنسانيّاً ــ تنطبع بالمَعِيش، فتأخذ منه سِماتٍ غريبة. فهذا محمد شكري، المغربي الأمازيغي، الذي قَدِم إلى الكتابة من الهامش، كانتْ له قضاياه المختلفة ولونُه الغريب في الكتابة بالعربية، ولا يختلف في شيءٍ عن سلمان رشدي الذي كتب بإنكليزية لوَّنتْها مُفرداتُه وعباراته الغريبة، التي أصْلُها ثقافتُه الْأُورْدِيّة، والتي جعلتْ منه مُبدِعاً حقيقيّاً في غير لغته وثقافته الأصليتيْن. وهكذا منح تغييرُ اللغة الكاتبيْن، المغربيَّ والهنديّ، تغييراً في الأسلوب وفي التفكير، فكان لهما لونٌ خاصّ بهما في الكتابة.
ويتهيّأ لي أن اللون في الترجمة، بصفتها إعادة كتابة، يظهر بشكل أوضح من الكتابة رأساً؛ فالمعروف الآن أنّ وجود أكثر من مترجِم لنصّ واحد يَخلُق للمؤلِّفِ المترجَمِ وجوهاً متنوِّعةً بعدد ألوان الكتابة عند مترجِميه، أي مُعِيدي كتابتِه، طالما أنّ كلَّ مترجِم يَعقِد علاقة خاصّة مع اللغة والثقافة اللتيْن ينقُلُهما، ويُصرِّف تأويلَه لهما وَفْقاً لحساسية تَخُصه، ولِمَا أسهم في تكوينِه ثقافياً ونفسيّاً.
ولعلَّ هذيْن التكوينيْن، الثقافيّ والنفسيّ، هما اللذان كانا وراء أكبر حدث ثقافي ذي علاقة بالترجمة عرفَه العالَم في الآونة الأخيرة، عَقِب تنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن، يوم 20 كانون الثاني/ يناير 2021، والذي عرَف احتفاءً لافتاً بالشِّعر، في وَسَط اجتماعي رأسمالي تِقْنيّ كثُرَت المُصادرات التي تذهب إلى خفوت الشِّعر فيه.
فعلاً، فاجأ الأميركيون العالَمَ، أثناء التنصيب، بدعوة الشاعرة الأفروأميركية أمَانْدَا غُورْمَان إلى قراءة قصيدتها "التلّ الذي نتسلَّق"، في احتفال بهيج. وقد أسهمت تلك القراءة في تذكير مشاهدي شاشات التلفزة بمكانة الشعر، في الولايات المتّحدة الأميركية وربما في العالَم، حيث تسابقتْ دور نشرِه الكُبرى ساعيةً إلى الحصول على حقوق ترجمة أعمال الشاعرة الشابة، ناهيك عن إسراع الصفحات الثقافية للصحف العالمية والجرائد الإلكترونية إلى ترجمة تلك القصيدة.
لكنّ اللافت أيضاً هو حضور اللون بحِدَّة في هذا الحدث؛ كان ذلك على لسان المترجِم الكاتَالَاني ڤِيكْتُور أُوبْيُولْس، الذي أُسنِدتْ إليه ترجمة أعمال الشاعرة الأميركية، من قِبل منشورات "أُونِيفِرْسْ" التابعة لمجموعة "إنسيكلوبيديا كاتالانا"، والذي بعد توقيعه العقد، وتقدُّمِه في عمله أشواطاً مهمّة، ألغتْ دار النشر عقدَه مع التزامها بتعويضه عن جهده. وقد قال أوبيولس متأسِّفاً على شبكات التواصل الاجتماعي: "اعتُرِض عليَّ، على الرغم من الإعجاب بسيرتي الذاتية؛ إنهم يريدون أنْ يكون المترجِمُ امرأةً، وناشطة حقوقية، ويُفضَّل أن تكون سوداء".
ولا يخفى أن هذه الواقعة كانت من ارتدادات واقعةٍ شبيهة، أُثيرتْ حول ترجمة أشعار أماندا غورمان؛ فأسابيعَ قَبلها كانت هولندا قد عَرَفت حدثاً مماثلاً، لمّا اعترضت الناشطة جانيس دويل على عدم إسناد الترجمة إلى مترجمةٍ أفروهولندية، لمّا اخْتيرتِ الكاتبةُ ماريكي لوكاس رينجدفلد، وهي أصغر فائزة بجائزة "بوكر"، بِعملها "قلق الليل"، لكي تُترجِم لأماندا غورمان. واشتعل الجدل بحدّة في مواقع التواصل الاجتماعي، ممّا اضطرّ رينجدفلد (أُحادية العِرق)، تحت تأثير الموقف المُفتَعل، إلى رفض إنجاز المهمة الوكَلة إليها، هكذا يكون اللون ذا لصوق فعليّ بالترجمة، ويكون للأخيرة لونٌ أيضاً.
* مترجم وأكاديمي من المغرب