تناول أربعة باحثين في ندوة عُقدت في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، أمس الأحد، بنية الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، الثابت والمتحوّل فيها، ضمن ندوة دورية "عُمران" للعلوم الاجتماعية، "الاستعمار الاستيطاني والأصلانية والصراع الفلسطيني ضد الصهيونية" التي انطلقت أوّل أمس وتُختتم اليوم الإثنين.
أشرف عثمان بدر، المُحاضر في "دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية" بكلية الآداب في جامعة بير زيت الفلسطينية، كان أول المتحدثين مشاركاً عبر الفيديو بسبب منعه من السفر. والسؤال الذي قامت عليه أطروحته: ما المنطق الجامع الذي يقوم عليه الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، أهو بنية، أم عملية مستمرة ومسار يخضع للمتغيرات؟
تجيب الأطروحة عن هذا السؤال من خلال الرجوع إلى الأدبيات المتعلقة بالموضوع، والاشتباك النظري مع مجموعة من أبرز المنظرين في مجاله، خاصة في ما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي لمناطق 1967، ومن توظيف مفهوم ميشيل فوكو للسلطة وأنواعها.
وفي رأيه، فإنّ المشكلة التي تتجاهلها كثير من الكتابات أنّ النظام الاستعماري الاستيطاني الحاكم ليس نموذجاً ثابتاً لا تتخلله تغيرات أو تحولات، وعليه، فهم لا يعطون أهمية كبيرة للفاعلين، سواء أكانوا خارجيين أو داخليين، والأخيرون هم الفلسطينيون الواقعون تحت المنظومة الاستعمارية. كما تتجاهل هذه الكتابات فاعلين داخليين آخرين، وهُم المستوطنون أنفسهم الذين تتناقض مصالحهم في بعض الأحيان مع المنظومة الاستعمارية الحاكمة.
بناءً عليه، يقول: "إذا ذهبنا إلى أنّ الاستعمار الاستيطاني بنية، فإننا نُهمل أنّ هناك شعباً حياً استطاع بصموده على الأرض أن يحول من أدوات الاستعمار الاستيطاني، والتي من بينها المحو، ليستخدم مفاهيم وأدوات أُخرى لإدارة المناطق والسكان الذين ثبتوا أمام محاولة تهجيرهم وتطهيرهم عرقياً".
في تحوّلات البنية الاستعمارية الاستيطانية، وقف الباحث أمام مثال قال إنه أصابه بالدهشة، إذ لو قلنا إن سلطة استعمارية تقدّم الدعم للقطاع الزراعي الفلسطيني، سيبدو أمراً غريباً على أخلاقيات المستعمر. غير أنه قد وقع بالفعل، حيث رجع الباحث إلى الأرشيف الإسرائيلي ومقابلات أجراها بنفسه مع مزارعين ليجد أن الاحتلال دعم قطاع الزراعة الفلسطيني بين عامي 67 و81، من تقديم التقنيات كوسائل الري أو المبيدات والبذور وما أشبه، بهدف عبّر عنه شلومو غازيت، الحاكم العسكري في الضفة، بشكل واضح، حين قال إن تحسين المستوى المعيشي للفلاح يجعل للفلسطيني شيئاً يخاف عليه إذا ما فكّر في التمرد.
المحو الديمغرافي والتهجير القسري والتطهير العرقي سمات أساسية ومؤسِّسة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني
وإذا جمعنا خلاصة ما قاله، فإن المحو الديمغرافي والتهجير القسري والتطهير العرقي سمات أساسية ومؤسِّسة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، والتي تجسدت بشكل واضح عام 1948 ولولاها لما قامت "إسرائيل".
لكن تتبُّع المسار التاريخي يكشف بأنّ المنطق الجامع ليس المحو، وإنما هو الضبط والتحكم والسيطرة التي قد تُتحقّق أحياناً بالمحو، وتارة بالإدارة أو بالاحتواء أو التمييز والفصل أو بالدمج، بغية تحقيق الهدف النهائي، وهو خدمة المشروع الصهيوني الاستعماري القائم على فكرة الدولة اليهودية العنصرية.
هنا يأخذنا طارق دعنا، الأستاذ المساعد في برنامج الماجستير في إدارة النزاع والعمل الإنساني بـ"معهد الدوحة" إلى صورة ثانية وهي الإنتاج العسكري- الأمني واقتصاد الحرب في سياق الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. وتنبني مساهمته على أنه لا يمكن فهم ديناميكية الإنتاج والابتكار العسكري الإسرائيلي دون وضعه في سياق الاستعمار الاستيطاني.
كما أن مساهمة "إسرائيل" في صناعة تكنولوجيا عالية يجب أن يأخذ في الاعتبار الجذور الاستعمارية لهذه الابتكارات التي بُنيت على التطهير العرقي والقتل الجماعي وأشكال أُخرى من الجرائم الاستعمارية.
وشرحت مشاركته كيف نمت وتوسّعت بنية هذا الاستعمار استناداً إلى اقتصاد الحرب، الذي لا يمثل أحد مرتكزات مفهوم القوّة في الأيديولوجيا الصهيونية فحسب، وإنما أيضاً أداة مركزية في تشكّل الدولة والمجتمع في "إسرائيل". ومضى يقول إن الصهيونية بوصفها حاضنة أيديولوجية للمشروع الاستعماري الاستيطاني استندت بشكل جذري إلى منطق القوّة بكافة أشكالها وأهمها القوة العسكرية.
السياسة الصهيونية هي، قبل كل شيء سياسة القوة، ومراكمتها وتوسيعها
تجلّى هذا من خلال مقاربة فلاديمير جابوتنسكي الصهيونية المتمثلة في "الجدار الحديدي" والمرتكزة على مفهوم التفوق العسكري كصمام أمان في تحقيق الأهداف الاستيطانية التوسعية عن طريق إلحاق الهزائم المتتالية بالعرب. وكما لخّص مؤسّس "إسرائيل"، بن غوريون، فهمه للقوّة، فإن السياسة الصهيونية هي قبل كل شيء سياسة القوة، ومراكمتها وتوسيعها.
وأوضح المتحدّث بأن الخبرة العسكرية والأمنية الإسرائيلية تعتمد على تحويل سكّان الأراضي المحتلّة إلى مختبر تجارب باستخدام تقنيات متطوّرة لمكافحة التمرّد والمراقبة والسيطرة، بينما يجري تسويقها عالمياً تحت شعار "اختُبرت في أرض المعركة" أو "أثبتت قدراتها القتالية". وقال إن "إسرائيل" صُنّفت بين عامي 2015 و2018 ثامن أكبر مصدّر للأسلحة في العالم، وقُدرت مساهمتها بـ 3% من صادرات الأسلحة العالمية.
من هذه الصادرات الطائرات المسيّرة التي تُعتبر أحد أكبر مصدّريها في العالم، وتُعزى قدرات "إسرائي"ل على تطوير هذا النوع من الطائرات إلى التجارب التي أجرتها على الفلسطينيّين خلال الانتفاضة الفلسطينية، وخلال الحرب على لبنان في 2006، والحروب على غزّة بين عامَي 2008 و2021.
وبالأرقام، أفاد المتحدّث بأن حرب "إسرائيل" على غزّة عام 2014 كان 37% من شهدائها، بمن في ذلك 164 طفلاً، بقصف من الطائرات المسيّرة، وتبين لاحقاً أن ذلك كان جزءاً من اختبار هذا النوع من الطائرات تصنعه شركة "البيت" التي تنتج 80% من مجمل هذه الصناعة. وبعد الحرب حققت هذه الشركة أرباحاً في الصادرات بمقدار 6%.
تقاسم الباحثان في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، هاني عواد ومريم هواري، المشاركةَ التي حملت عنوان "إعادة التفكير في شرط الحكم غير المباشر: تحولات أشكال الحكامة الكولونيالية الإسرائيلية وأنماط مقاومتها".
وقال عواد إن الاستعمار الاستيطاني بنية لا مكان فيها للمقاومة، وإنّ شكل الحكامة Governance يعتمد على المقاومة أو الفاعلية، ملاحظاً أنّ غالبية الأدبيات لا بد أن تجد فيها نقاشاً حول الحكم غير المباشر، ذاهباً إلى مثالين طرحهما أكاديميان معروفان، الأول الكاتب لورينزو فيراسيني الذي موضَع مؤسّسات السكان الأصلانيين ضمن ما سماه "ترانسفير دبلوماسي"، بحيث يحل الاستعمار الاستيطاني مشكلته البنيوية عبر حشر هذه المؤسسات في كيانات شبه سيادية وفصلها عن مؤسسات الاستعمار الاستيطاني، والمثال الأبرز على ذلك البانتوستانات في جنوب أفريقيا والسلطة الوطنية في فلسطين. أمّا المثال الثاني، فهو الكاتب محمود ممداني الذي قال إنّ تأسيس سيادة المستوطنين القومية لا بد أن تنتج حلولاً استعمارية مؤسّسة على الحكم غير المباشر، والذي أسماه في كتابه الأخير حل الدولتين.
معظم أدبيات الاستعمار الاستيطاني أسيرة مقارنات مع أنظمة استيطانية استعمارية بائدة
والنقطة الجوهرية التي يراها عواد جديرةً بالدرس هي أن معظم أدبيات الاستعمار الاستيطاني أسيرة مقارنات مع أنظمة استيطانية استعمارية بائدة. ووفقاً له، فإنه حتى نظام الاستعمار في جنوب أفريقيا بات نظاماً قديماً. أما ما يريد إعطاءه الأهمية الكبيرة فهو الثورة التكنولوجية وتحديداً بعد 2001، حيث جعلت بالإمكان لنظام استعماري استيطاني في فلسطين أن يحكم جماعة أصلانية بطريقة غير مباشرة.
وقدّم الباحث وفقاً للتحليل المؤسّسي الجديد تعريفاً جديداً للحكامة الاستعمارية الاستيطانية، وقال: "لقد عرفناه بأنه: مجموعة الأنظمة الرسمية وغير الرسمية المترابطة التي تنتهجها سلطة استعمارية استيطانية بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من السيطرة وأقل قدر ممكن من المسؤولية عن السكان الأصلانيين، وهو ما يتطلب استدامة بنى العنف لإخضاع فاعلية السكان".
في القسم الثاني من الورقة، تحدّثت مريم هوّاري راصدة عدّة مراحل من الحكامة الاستعمارية، أولاها ما قبل أوسلو في قطاع غزّة والضفة الغربية، حيث كانت حكومة عسكرية تدير إدارة مدينة وشبكة عملاء، اندرج تحتها في الضفة الغربية روابط قرى وفي المدن مجالس بلدية ومحلية.
أمّا الحكامة في عهد أوسلو فقامت على بنية مؤسسية فلسطينية قادرة على احتكار الفاعلية السياسية الجماعية، بما ينشئ نظاماً تفضّله "إسرائيل"، يجعلها تمارس حكماً غير مباشر وبكلفة أقل. ورغم أن بنية أوسلو فصلها الإسرائيلي والأميركي من ورائه، أشارت الباحثة إلى عدة صدامات أكبرها الانتفاضة الثانية في مرحلة ما بعد أوسلو التي قادها ياسر عرفات، والتي يمكن القول إنها عرفت شكلاً من المقاومة ومراوغة الإطار الأوسلوي.
تدمج السلطة الفلسطينية بُنيتها الإدارية من أرشيفات مدنية وإدارية وأمنية وتتيحها للحكامة الاستعمارية
تطرّقت الباحثة هنا إلى تحولات تتمظهر في وجود مكتب تنسيق أمني في زمن عرفات، ومنذ تسلم محمود عباس أصبح هناك ثمانية مكاتب إقليمية. ماذا يعني ذلك؟ تجيب هواري بأنّ دور السلطة غادر موقعه الملبّي لحكم غير مباشر في الضفة إلى الدخول تحت حكم مباشر الآن، تدمج فيه السلطة بُنيتها الإدارية من أرشيفات مدنية وإدارية وأمنية ورقمنتها وتتيحها للحكامة الاستعمارية.
في غزة تذهب بنا إلى صورة حكم غير مباشر. فما فعله الاستعمار الاستيطاني في الضفّة ولم يستطعه في غزة، جرى تعويضه بالاحتلال الجوي والبحري والرقمي؛ فقد عجزت "إسرائيل" عن تفكيك الفصائل الفلسطينية ولم تتمكن من تدمير النمط العام للمقاومة، لذلك لجأت إلى وسائل تكنولوجية مثل الرقابة عبر الأقمار الاصطناعية والاستشعار عن بعد، والطائرات المسيّرة لرصد تحركات الفاعلية السياسية.
والحال في القطاع أنّ حماس احتكرت الفاعلية السياسية وطوّرت قدراتها العسكرية عن طريق شبكات أنفاق مجهّزة بغرف اتصالات محصَّنة نوعاً من الاختراقات والتنصتات، ومنعت وصول بيانات حيوية عن السكان الفلسطينيين.
التكنولوجيا إذن فارق أساسي للسيطرة غير المباشرة عن بعد، غير أن وصول الحكم في الضفّة الغربية إلى الشكل المباشر الذي يوفر بعضاً من العنصر التقني، أنتج قبل سنوات، كما ختمت هواري مشاركتها، شكلاً مقاوماً شبيهاً بما كان أيام الانتفاضة الأولى، وهو ما عُرف بانتفاضة السكاكين.