أربعة أيام

14 اغسطس 2024
عمل للفنان الفلسطيني عبد الله أبو راشد
+ الخط -
اظهر الملخص
- **صباح اليوم الأول**: استيقظنا على صوت إطلاق صواريخ وتوغل عسكريين، مما دفعنا للجوء إلى بيت الدرج. انضم إلينا ثلاثة رجال بثياب عسكرية، أحدهم مصاب، وغادروا تاركين معداتهم. شعرنا بخطر حقيقي بسبب وجود الأسلحة في المنزل، وبدأت معركتنا مع نقص الكهرباء والماء والإنترنت.

- **ليلة اليوم التاسع عشر**: تعرضت المغازي لقصف شديد، مما أدى إلى تدمير مخبز ومول. كنا بلا كهرباء والماء محدود، ورفعناه يدوياً. عشنا حالة ذعر وفقدنا أصدقاء وجيران تحت الأنقاض.

- **مساء اليوم المئة وأحد عشر**: ابنتي كانت في حالة ولادة، وتمكنا من الوصول إلى مستشفى العودة بصعوبة. شهدنا وصول جرحى وموتى، وبعد ولادة حفيدتي، غادرنا المستشفى فوراً. في اليوم الثاني والسبعين بعد المئة، حصلنا على دجاج مجمد لأول مرة منذ بداية الحرب، لكننا ما زلنا نعاني من نقص الغاز والإنترنت.

صباح اليوم الأول.

بعد فجر السبت بساعة، استيقظنا على صوت إطلاق صواريخ، نحن نعرف الفرق تماماً بين صوت الصواريخ المنطلقة نحو الشرق وبين صوت ضربات الهاون التي لن تتجاوز كيلومترات معدودة، صوت الصواريخ يشبه إلى حد ما صوت جر سريع للوح من الصاج على أرض أسفلتية، وبالطبع نفرق بين صوت الرشاش العادي وصوت طلقات مضادات الطائرات، والجديد الذي صرنا نميزه حديثاً هو صوت الصاروخ التحذيري. صوت حاد ناعم سريع كأنه يثقب الأذن، لا يرج الهواء، ترسله طائرة الـF16 لتنبيه السكان بأن هذا المبنى تحديداً يجب إخلاؤه، تمهيداً للصاروخ الآخر الذي سيُرسَل بعد أقل من ربع ساعة، هذا سيكون صوته أكثر سماكة، بطيئاً وهادراً، وسيعقبه أيضاً صوت أكثر كثافة، متراخٍ بشكل يائس يهز الأرض المحيطة به، كما أن البيوت المجاورة ستهتز معه كشجر، وتعلو المكان سحابة من الغبار الأسود، هو صوت انهيار المنزل المُنذَر.

استيقظنا، الأولاد تناثروا خارج أسرتهم باتجاه مخرج البيت بعيداً عن النوافذ، قلنا: رشقة صواريخ. وبدأنا في العد. كنا غالباً ما نصل إلى رقم ما بين العشرة والعشرين في المرات السابقة، الحروب السابقة، التي ستصل إلى رقم ستة بعد قليل، هذه المرة تجاوز العدد أربعين وأكثر. قال الابن الجامعي وهو يتنهد: وهكذا انتهى العام الدراسي. يبدو أن القصة كبيرة. 

بعد ساعة، اتضحت الأمور أكثر، توغل لعسكريين عبر السلك الحدودي، ذلك السلك الذي تصرخ فيه صافرات الانتباه لو حط عصفور عليه، الآن جميعنا في مدخل البناية، بيت الدرج البعيد عن النوافذ والقريب من الشارع، بدأ صوت الطائرات، والقذائف تنهمر، نسمعها بوضوح قريبة جداً، عائلتي وعائلة أخي في بيت الدرج، النساء بملابس إضافية وحجابات، الرجال والأولاد بما تيسر، جوارنا زجاجات الماء، الوثائق وجوازات السفر وشهادات الميلاد والأوراق المهمة في حقيبة قرب الباب، احتمالات قصف البيت واردة، احتمالات الخروج من البيت أكثر وضوحاً، الجيران يتصايحون لإخلاء البيوت، نحن قريبون من السلك الحدودي بمسافة كيلو متر واحد، حاسة السمع منتبهة بشكل متوتر، تتداخل الأصوات بحيث لا يمكن لخبراتنا السابقة تمييز أي شيء سوى جسامة الأمر. الصواريخ والطائرات، الهاونات والقذائف، القلق والخوف على وجوه الجميع، نحاول التماسك قبل أن يقرع باب البيت بشكل ملح. ثلاثة رجال بثياب عسكرية وأسلحة ودراجة نارية اندفعوا لينضموا إلينا، أحدهم مصاب بطلق ناري، الدماء تنزف منه وهو يتلوى، أحدهم يربط رباطاً على الجرح، والآخر يبدل ثيابه بأخرى مدنية، دقائق وغادروا، تركوا معداتهم لدينا في صرة تعادل كيس طحين.

نسيت حينها وتذكرت لاحقاً أنني لم أسمع صوت الزنانات "الدرونز" التي تقصف المسلحين في ظروف كهذه. صوت طنين نحلة هائلة، غادروا مدنيين فقط. الآن البيت أكثر تهديداً لدينا أسلحة، وربما قنابل، وربما جرت متابعة هؤلاء من قبل الزنانات. نعم نحن في خطر حقيقي وكبير، نحن منزل مستهدف الآن. تناسينا كل هذا، وبدأت معركتنا الخاصة: لا كهرباء ولا ماء والإنترنت يترنح. المخابز مكتظة بالطوابير، المواد الغذائية تنفد.... وماذا سنفعل بالأسلحة المخبأة؟

في المساء، يتصل خالد الناصري: ناصر كيف حالك؟ اكتب شهادتك عما يحدث؟ صحيفة عراقية ستخصص ملفاً خاصاً عن الموضوع. أمجنون أنت يا رجل!! بل من هو المجنون الذي سيطاوعك ويكتب.


ليلة اليوم التاسع عشر

أكثر ليلة تعرضت فيها المغازي للقصف، ضربات شديدة جداً ترج البيوت وتخلخل الهواء قبل أن نسمع صوت الانفجار، قصف متتابع لمدة ثلاث ساعات منذ الساعة التاسعة حتى منتصف الليل. لا نعرف بالضبط أين استهدفت الضربات، سمعنا أن إحداها استهدفت مخبز المغازي الوحيد، لم نسمع بعد صوت سيارات الإسعاف، ونظن بشكل كبير أنها مشغولة في أماكن أخرى، أو أن المستشفيات انهارت ولم تعد تعمل، كنا سمعنا عصر اليوم عن قصف مطحنة السلام، وقصف آخر لمول أبو دلال، مخبزنا الذي قُصف الليلة كنت مع أخي أمامه عصر اليوم، حاولنا الحصول على الخبز مدة ساعتين وفشلنا، واكتفينا بتصوير الطابور الذي امتد لمسافة تزيد عن ستين متراً خارج المخبز. ما زلنا بلا كهرباء منذ بداية الحرب، والماء المالح يصل لمدة ساعات قليلة، مرتين اسبوعياً، ويصل فقط الى الطابق الأول، يرفعه الأولاد إلى خزان الماء في الطابق الثالث بواسطة جالونات. يرفعونه وهم يتلفتون رعباً خشية استهدافهم، حيث قُصف سطح جيراننا وهم يفعلون ذلك قبل يومين. زوجتي وابنتي في حالة ذعر وبكاء أغلب الوقت، القط الذي لدينا تغير سلوكه، وبدأنا نلاحظ سرقته طعامنا وانزواءه تحت الكراسي. اليوم مررت بجوار بيت صديقي أبي يعقوب، ما زال تحت الانقاض منذ أمس، استخرجوا جثث اثنين من أبنائه، وكذلك زوجته، أما هو فلم يستخرجوه بعد. المرة الأخيرة التي التقيته فيها كان عائداً من معبر إيريز، قال إنها المرة الخامسة التي يذهب فيها للبحث عن عمل ولا يجد، اليوم حدثني جارنا أبو علاء عما شاهده في مستشفى الأقصى أثناء استلام جثمان ابن أخيه عماد، عماد مدرس التربية الرياضية الذي استشهد وهو يشتري طعام العشاء لعائلته في النصيرات، قال لي أنه وصل إلى المستشفى وهو يصرخ، كانت أمعاؤه خارجاً، وتوفي بعدها. هذا ما عرفه من أحد الأطباء هناك، قال لي إنه شاهد أحد الشهداء، مجرد أشلاء في كيس حمله ممرض بيد واحدة ورفعه إلى جوار آخرين على شاحنة، وإنهم وقفوا جوار الشاحنة وصلّوا عليهم. قال لي إن قلبه تحجر، ولم يعد يشعر لا بوجع ولا بأسى.


مساء اليوم المئة وأحد عشر

ابنتي في حالة ولادة هذا اليوم، الساعة الخامسة عصراً، أخيراً وصلنا إلى مستشفى العودة بالنصيرات، السيارة قديمة ومتهالكة، وافق السائق بالكاد أن يحملنا إلى هناك، قال إن المكان خطير ومستهدف ومهدد بالقصف، خدمات الإسعاف فقط لنقل الجرحى والشهداء، وشارع صلاح الدين منطقة عسكرية ممنوعة، ولا بد من أن نسلك طريقاً طويلاً كي نصل. صهري استطاع توفير تلك السيارة وإقناع السائق بطريقته، الطريق البديل نفسه كانت قد أصابته عدة قذائف جعلت السيارة تعلو وتهبط كل مترين تقريباً، رافقنا مع صراخ ابنتي وتذمري صوت طائرة زنانة، حتى ظننت أنها تلاحقنا. وصلنا أخيراً، دخلت زوجتي لمرافقتها، ووقفت مع صهري في الخارج ننتظر، زحام كثيف أمام الباب، مرضى كثيرون وجرحى، صحافيون ومواطنون ينتظرون ذويهم، وجوه ذابلة وعيون منكسرة، مرت ساعة قلقة، صوت الزنانة الذي يقترب ويعلو لا يفارق المكان، حديث السائق الذي أوصلنا وغادر بسرعة صار يقيناً، هذا المستشفى مستهدف، أوعزت لصهري أن يغادر المكان، بحجة شراء حليب أطفال وأشياء أخرى للمولود، دقائق وسمعت صوت انفجار قريب هز المكان، فتات الحجارة وصل بوابة المشفى حيث أقف، سقط على رؤوس المحتشدين أمام الباب. المكان قريب جدا إذاً ، دقائق أخرى حتى داهمنا صوت رجل ملهوف صارخ يدعو لإفساح الطريق، وصلت عربة نقل صغيرة تحمل امرأة وابنتها الرضيعة، وشاباً في العشرين، كانوا ينزفون وفي حالة إغماء، أمامهم يركض الرجل في حالة هيستيريا: "مات أولادي.. ماتوا". 

لم أتبين من نُقل من المصابين إلى الداخل، كنت أتابع الرجل المكلوم الذي يلطم وجهه، ويسب كل شيء. ينظر ناحية المرأة ورضيعتها وهم ينقلونهما للداخل، وينظر خلفه وكأنه ينتظر شيئاً ما مرعباً يلاحقه، حين ظهر ما ينتظره هبط على ركبتيه وحمل تراباً وعفر به رأسه، وصلت عربة يجرها حمار تحمل ثلاثة موتى، كانوا أبناءه، اثنان متجاوران مستلقيان على ظهريهما والثالث على بطنه متعامداً فوقهما، أُحضرت النقالات وحُملت الجثث إلى الداخل، مروا من أمامي، مروا من المسافة التي تفصلني عن الرجل الذي ينوح ويصرخ ويسب كل شيء، ثيابهم مدماة ومتربة، حفاة، عيونهم مفتوحة على بياض تام، أحدهم مبتور الساق، والثاني مصاب في بطنه، مسح الأب على رأس الابن الأصغر حين مر أمامه، قال يسأله: "مت يا مصطفى؟ مت يا مصطفى؟ معلش يابا. معلش". ثم لحق بهم إلى الداخل.

تبين من صراخ الرجل أنهم نازحون، عادوا إلى منزلهم في منطقة المخيم الجديد الذي جرى إخلاؤه سابقاً، فقصفتهم إحدى الزنانات، الرجل يعمل بائعاً للخضراوات ولا علاقة له بشيء. الممر الذي أتاحه المزدحمون أمام الباب سرعان ما عاد لحالته، وسرعان ما عاد كل واحد منهم لمشاغله، أنا أيضاً تذكرت ابنتي وشرعت في الدعاء لها كي تلد بالسلامة.

في الساعة الثامنة، كان الظلام قد حل، والشوارع فارغة تماماً، ولم يكن أمام المستشفى سواي وصهري ورجلين آخرين وسائق سيارة، وما زال صوت الزنانة متواصلاً، أضواء شحيحة تنبعث من الداخل تؤنس المشهد الكئيب. قبل ساعة، أبلغتني زوجتي أنني صرت جداً لحفيدة جميلة، وأن الأطباء أبلغوها بضرورة اصطحاب ابنتي ومولودتها والمغادرة فوراً، حيث ينتظرون مزيداً من الجرحى ولا مكان لراحة الأم التي وضعت للتو. ساعة كاملة تجري زوجتي محاولات مستميتة لابقاء ابنتها في المشفى ساعات قليلة أخرى من دون جدوى، وأنا وصهري نهرول في الشوارع نبحث عن سيارة لنحملها إلى البيت من دون جدوى. في الساعة الثامنة، وجدنا سيارة مصطفة ومضاءة من الداخل، يبدو أن السائق داخلها، شرحنا له المشكلة، وعلى غير توقعنا، لم يتردد ولم يفاوض على الأجرة: "اللي تدفعوه"، هكذا قال.

في طريق عودتنا، كانت ابنتي في حالة إعياء شديد، تحتضنها أمها، وصهري يتعجل السائق المبتسم الهادئ، قال له سيارتك الوحيدة في الشارع الآن وهذا سبب جيد لكي يقصفنا صاروخ ما. انشغلت بترديد الأذان في أذن حفيدتي بينما السائق اللامبالي يشرح لنا ببرود كيف أن بيته قد قصف في أيام الحرب الأولى، وأنه فقد أسرته بكاملها، وأن السيارة التي يقودها الآن هي كل ما يملك، هي عمله ورزقه وبيته الذي ينام فيه.


اليوم الثاني والسبعين بعد المئة

حصلنا اليوم فقط، وللمرة الأولى منذ بداية الحرب، على دجاج مجمد، وشعرت بتراجع قليل لأسعار بعض السلع، السكر والأرز مثلاً، الخبز متوفر بسعر معقول، غير أن الخضراوات ما زالت نادرة، أنواع قليلة وغالية الثمن. ما زالت الفاكهة مفتقدة تماماً بكل أنواعها، غاز الطهي هو الكارثة الكبرى التي أنهكتنا تماماً، منذ أكثر من إسبوعين، ونحن نشعل الحطب لكل شيء، لتسخين الماء للإستحمام، لطهي الطعام، حتى لو أردنا تجهيز كوب من الشاي لضيف متعجل. لا غاز في رمضان الكريم، الحطب الذي توفر لنا نفد تماماً، ولم يعد لدينا أي شيء يمكن إشعاله بعد أن قمنا بإشعال رفوف المكتبة المحطمة والكتب وأخشاب الكراسي المتفتتة بفعل القصف. سبب لي ذلك غصة وأسى لا يحتملان. لا أعرف ماذا سأفعل غداً لتجهيز طعام الإفطار.

الإنترنت أيضاً غير متاح، ونضطر لممارسة حيل وتدابير مرهقة للتواصل الشحيح، يجلس البعض على حجر في الشارع لتلقف النذر اليسير من الإنترنت، أو ربما نحتاج للذهاب إلى النصيرات أو دير البلح والجلوس في مقهى خاص وفي ساعات معينة أيضاً. حل مشاكل الغاز والحطب وتوفير المواد التموينية وتأمين المياة لا يترك لنا من ساعات اليوم أي متسع للتفكير في ترف التواصل عبر الإنترنت.

مرهق أنا ومتعب وتؤلمني ساقاي ولم أعد أقوم نشيطاً كما كنت للوضوء وللصلاة. أحياناً أقرأ القرآن بصوت مسموع فأشعر بانسجام مع الآيات، ربما أحاول الانفصال عن واقعي اليومي، فلم تعد لدي رغبة في الاتصال بأحد أو الرد على اتصال أحد. أخبار القصف والبيوت المنهارة لم تعد تثيرني، رغم سماع أصوات عنيفة في ساعات متفرقة من النهار والليل، وكذلك صارت أخبار الحرب والمفاوضات تثير تقززي.

مؤخراً، أنفقت أكثر من 2300 شيكل لمجرد الحصول على لوح طاقة شمسية متواضع وبطارية مستعملة وبقية تجهيزات توصيل إضاءة متواضعة وتوفير شحن للجوالات، لكي نرحم عبد الرحمن، طالب التوجيهي، من مشاوير الإذلال اليومي إلى المدرسة أو نقاط الشحن مدفوعة الثمن التي قام بها مشكوراً وبلا تذمر أكثر من ستة أشهر. عبد الرحمن يبدو سعيداً وفخوراً ويلازم بشغف كبير قراءة الشحن على عداد البطارية.

أمس، أمكن تشغيل شاشة التلفاز لأول مرة منذ بدء الحرب. اجتمعت العائلة أمام الشاشة، تحلقوا واستمتعوا بساعتين من الفرجة التي حرموا منها طوال ستة أشهر، رأيتهم منبهرين بمشاهدة أخبار الحرب على قناة الجزيرة، منبهرين كأنهم يشاهدون اخباراً عن بلد آخر.

29 أيار/ مايو 2024
مخيم المغازي

* شاعر وروائي من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون