رحلة في استقراء الشعر العربي من زاوية نقدية فريدة، قد لا يقول هذا المَطْلع أيّ جديد ونحن نتحدّث عن كتاب: "الميتا شعرية في التراث العربي: من الحداثيّين إلى المُحدَثين" للباحثة والناقدة هدى فخر الدين، فاشتغالات كهذه عادةً لا تبدأ ملامح تأثيرها في الدرس الشعري بالظهور مباشرة، إنّما تتطلّب وقتاً حتّى يتبيّنَ للقرّاء إلى أيّ الطموحات ستصل، شأنُها شأن كلّ المقولات النظرية.
وكذلك الأمر في عمليّة التلقّي، إذ لا تنحصر دائرتها بين أوساط أكاديميّة عربية فقط، فالعنوان الأصلي للكتاب كما ورد بالإنكليزية: (Metapoesis in the Arabic Tradition From Modernists to Muḥdathūn Tradition)، وقد وقّعت ترجمتَه العربية: آية علي، وصدر عن "دار أدب"، 2021. ولو توخّينا الدقّة، فإنّ الكتاب في أساسه مشروع أطروحة لنيل الدكتوراه من قسم لغات الشرق الأدنى بـ"جامعة إنديانا" (2011)، وبإشراف الباحثة في الشعر العربي الكلاسيكي سوزان ستيتكيفيتش، ما يعني أنّ الشريحة التي يُنتظر أن تتفاعل معه، تتقاطع فيها الكثير من الخلفيّات الحضارية.
تحاولُ فخر الدين في مقدّمة العمل أن تنتقل بالقارئ إلى عتبةٍ تعريفيّة عن الموضوع العام، أو السؤال المؤسِّس "ما الميتا شعرية؟"، ونعني بمصطلح "الميتا شعرية" كل قصيدة تتناول، في موضوعها، الشعر نفسَه. أوليسَ الشعر كلّه ميتا شعري بوصفه لغةً بالغة التجريد، ومن ثمّ أيّ الخطوط تصلُ بين هذين التكوينَين التاريخيَّين؛ أي "الحداثيين" أصحاب ثورة التفعيلة والنثر، و"المُحدَثين" في العصر العبّاسي، الذين ثاروا على تقاليدَ راسخةٍ في الشعر العربي وأبرزها تقليد الأطلال والوقوف عليها.
"الميتا شعرية" كل قصيدة تتناول، في موضوعها، الشعر نفسَه
تفضي القراءة الأولى لهذا التوجّه عند الباحثة، إلى تساؤل عن الفارق الزمنيّ الفاصل بين التكوينَين ("الحداثيين و"المُحدَثين") والذي قد يحولُ دون قدرة التعريف في أن يكونَ جامعاً بين التمثيلات. علاوة على ذلك، فإنّ تموضع التراث بوصفه وِجهة أو مثالاً، لا يقلّ بدوره في توليد الإشكاليّات والمُشكلات، فهل في هذا تنويعٌ جديد إلى جانب تنويعات تستحضر التراث، أم أنّ من الخطأ الحُكم على الوجهات بحركتها الظاهرية؟
يتحدّد الفصل الأوّل بثلاث مباحث تُدقّق في مفهوم الـ"ميتا شعرية" كما تجلّى في العصر الحديث، إلّا أنّ الجوانب الأهمّ فيها تتمثّل في الإشارة إلى القدرة على تجاوز الوزن الخليلي تجاوزاً يقوم على حركة واعية، وهذا ما بدأ مع "مشروع أبولو" 1932 - 1934 وقد استلهم أعمال الرومانسيّين الغربيّين فمهّد الطريق أمام الشعر الحرّ الذي تبدّى لاحقاً مع قصيدتي كلّ من السّياب "هل كان حبّاً" (1947)، والملائكة "الكوليرا" في العام نفسه.
أمّا البُعد النظري لهذه الحركة فقد أخذ يتشكّل مع أدونيس ويوسف الخال ومجلّة شعر (1957)، وبصوت مهيار يُعلن أدونيس ثورته بأسطر: "خارطتي أرضٌ بلا خالق/ والرّفضُ إنجيلي/ أنا لهجةُ البرق والصّاعقة". وهذه لغة عظيمة، حسب فخر الدين، تُذكّر بلغة المتنبّي ووالت ويتمان. وفي الوقت الذي كانت فيه قصيدة التفعيلة تتصوّب بالتساؤلات نحو ميراث الشعر، ونحو ذاتها أيضاً، جاءت قصيدة النثر لتتحدّاها في مقولة الحريّة والرفض والحداثة.
مع الفصل الثاني ينفتح الكتاب على "الأُصول"، والتسمية هنا تجاوُزية بطبيعة الحال، فالمنهج الذي اعتمدته الباحثة لا يتعامل مع أُصول قارّة وثابتة في ذاتها، وفي هذا إجابة عن دلالة التوجّه في عنوان الكتاب الفرعي من "الحداثي" إلى "المُحدَث" العبّاسي. أمّا الإشارات الأولى التي رتّبت ذلك الإحداث، فقد تمثّلت بالتحوّل الكبير من التقاليد الشفوية إلى حضور الكتابة، الأمر الذي أسّس لثورة على مستوى الوعي. وتستعير الباحثة من كتاب ستيتكيفيتش "أبو تمّام وشعريّة العصر العبّاسي" الذي دلّلت فيه إلى الفوارق الوظيفيّة ما بين "شعر البديع" عند العباسيين مقارنة بشعر الجاهلية "الاستذكاري". ولمّا كانت الوقفةُ الطلليّة الموروثَ الأرسخ منذ الجاهلية، فهي أوّل ما تزعزع مع تلك الثورة، واستحالت إلى موقف نفسي الخسارة فيه محض تأمّل للذات، وليست حكاية عن مكان، وحسبنا بيت أبي تمّام الأشهر: "لا أنتَ أنتَ ولا الديارُ ديارُ... خفّ الهوى وتولّتِ الأوطارُ".
لكن ماذا عن الحركة النقدية هل وازَت ذلك الفهم الشعري البديعي المُحدَث، بالتفاتة واعية أيضاً؟ يبدو أنّ الأمور كانت أعقد نوعاً ما، فهذا صاحب "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، القاضي الجرجاني (ت. 392هـ) يوجز موقفه ببارقة نقدية: "ولم تكن - العرب - تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر، ونظام القريض".
إذاً، فالشعر الذي يُفضّله الجرجاني هو الذي لا يُثقل قدرات القارئ، أمّا شعر أبي تمام وأصحابه فهو منعكِسٌ ذاتيّاً ومنفّرٌ للقارئ. ولم يبتعد المرزوقي (421هـ) في "شرح ديوان الحماسة" عن هذا التصوّر، وظلّ الأمر كذلك إلى أنّ تحقّق شيءٌ من الانفتاح مع عبد القاهر الجرجاني (471هـ) صاحب "نظرية النّظم"، الذي خرج من ثنائية اللفظ والمعنى. وخطورة هذا الخروج تكمنُ في أنّه ساهم بتداعي ثنائيات أُخرى مثل القديم والمحدث ذاتها التي ما زالت تحكم الكثير من القراءات الجامدة التي حذّر منها ياروسلاف ستيتكيفيتش مُسمّياً إيّاها بـ"نهج بناء المعابد للأسلاف الكلاسيكيين".
عبثَ بموضوع الأطلال ولم يرفضه، هذا ما فعله أبو نواس
تفتتح الباحثة الفصل الثالث بسؤال مؤرّق عن العبارة الأولى ومن أينَ تأتي، تلك التي كتبَ فيها نيرودا: "شيءٌ ما طرقَ روحي/ حُمّى أو أجنحةٌ منسيّة/ فشققتُ طريقي/ أُفكّكُ شيفرة/ تلك النار/ وكتبتُ البيتَ الأوّل". كذلك مطلع القصيدة العربية، لم يكن من السّهل اختراقُه فهو ضربٌ من ضروب الحُمّى والنّار المؤسَّسة عبر أجيال، أو حسب تسمية ياروسلاف ستيتكيفيتش "إشارة إلى الحرفة الشعرية" وذلك في كتابه "نحو معجم رثائي عربي". وإذ يُذهَب عادةً إلى وصف موقف أبي نواس من المطلع الطّللي بأنّه "رافض"، فإنّ فخر الدين تُفصّل فيه من حيث أنّه "عبثَ بموتيف الأطلال" وهذا يتمثّل في أحد مطالعه، إذ يقول:
"لِمَن دِمنٌ تَزدادُ حُسنَ رسومِ... على طولِ ما أقوَت وطيبِ نسيمِ
تجافَى البِلى عنهنّ حتّى كأنّما... لَبِسنَ على الإقواءِ ثوبَ نعيمِ"
فالأطلال التي تُصوَّر قاحلة، ها هو "رافضها" يصوّرها غضّة وحيويّة، وهذا ما تسمّيه الباحثة بـ"الرفض الزائف"، الذي وجد في ذلك التقليد مجرّد لغة نبوئية لا تستحق سوى السخرية: "قل لِمن يبكي على رسمٍ دَرَسْ... واقفاً ما ضرّ لو كان جلسْ".
أمّا تجربة أبي تمّام فمشكلتها عند النقّاد ناجمة عمّا اجتمع فيها من تجريد وتغيير معاً، هو لم يقف من التقاليد موقف الرفض، بقدر ما استخدمها بوعي، الأمر الذي عدّه النقّاد تكلُّفاً وفساداً. وتنضاف إلى أبي نواس وأبي تمّام، تجربتان أخيرتان تمّمتا ثورة المُحدثين العبّاسيين الشعرية، وهما البحتري والحضور القوي لموضوعة المدح في شعره، وعلاقته بممدوحه عبيد الله ابن طاهر التي ما إن اهتزّت وانقلبت هجاءً، حتّى استثمر فيها ابن الرومي الذي سبق له أيضاً أن تلاعب بموتيف الرحيل مكثّفاً إيّاه في أحد مطالعه الشهيرة "أذاقتني الأسفارُ ما كرّهَ الغِنى... إليّ، وأغراني برفض المطالبِ".
على هذه الأسماء الأربعة يقف الكتاب، وهم - باستثناء أبي نواس - قضوا أغلب حياتهم في القرن الثالث الهجري، وبهؤلاء قاربت الباحثة مفهوم الثورة الشعرية المُحدثة، دون أن تتابع صوب القرن الرابع الهجري والموهبة الفذّة التي تفجّرت به، ونقصد طبعاً المتنبّي. والغاية من ذلك، هو التدليل على أيّ مسار تاريخي سلكه الشعر العربي في تطوّره، وكأننا نعيد سيرة القلق بشكل أو بآخر ما بين "مشروع أبولو" مروراً بقصيدة التفعيلة... ومن ثمّ إلى النثر.