"الكتابة للغرب": الأدب العربي المترجم بعيني خوان خلمان 

20 أكتوبر 2020
خوان خلمان في 2008 (Getty)
+ الخط -

"الكتابة للغرب"، مقال نُشر يوم 19 كانون الأول/ ديسمبر 2002، في صحيفة يومية ببوينوس آيرس، ثم أُدرِج مع 76 مقالًا آخر ضمن كتاب "نظرات Miradas"، الذي صدر سنة 2005، ويبدو أن راهنيَته لم تُستَنفَد بعد. 

يستعرض الشاعر الأرجنتيني خوان خِلمان  في مقاله قراءاتِه في أهم أعمال أعلام الأدب العالَمي الأوروبي والأميركي. وفي هذا السياق يأتي تأمُّله في الرواية العربية المترْجَمة إلى الإنكليزية ممَثَّلة في عمليْن لحنان الشيخ وسليم بركات، ليكشف عن الاستراتيجية التي ربما أصبحت الآن سمة تطبع الكتابةَ عند الروائيين والشعراء وغيرهم من المبدِعين، الذين يكتبون بالعربية وهم يُفكِّرون في القارئ الغربي أكثر من قارئهم العربي، ويستحضرون المترجِم في الوقت ذاته، لتيسير مهمَّتِه.

ولا يترّدد خِلمان (1930-2014)، في التنديد بالدَّوْر غير النزيه الذي تضطلع به دور النشر الغربية، التي تتحكم مثلاً في نوع الأدب العربي، الذي ترغب في الترويج له بين قراء أوروبا وأميركا، بحصرها إياه في محوريْن هما: حال المرأة وواقع التطرُّف الديني. فيُعبِّر خِلمان عن رفضه، بصفته مثقَّفاً جنوبياً وعالم-ثالثِيّا، لإذاعة صورة نمطية عن العرب، تلك الصورة الغرائبية التي توافق هوى الحكومات الغربية ودسائسها، والتي تُريدُ للعربي أن يَظهر عليها، وتَعمَل دُور النشر على تصريفها وترسيخها. 

ويبدو أن الموقف نفسَه أعرب عنه الكاتب المغربي محمد شكري، الذي انتقد مواطنَه الطاهر بن جلون، الذي يكتب بالفرنسية مباشَرة، وسَخِر منه ومن كتابته "السياحية"، حينما اعتبرَه يكتب - بتكليف من دار النشر "سُويْ Seuil" - نصوصاً تجارية تخدع حواس القارئ الغربي، وتتنكّر للواقع الذي تنتمي إليه، وأنه يسعى إلى إبداع "ألف ليلة وليلة" معاصرة عبر حكي قصص نسِيتْها حتى جَدّاتُنا.

يُعيدنا مقال خِلمان إلى موقف نقدي آخر صدر عن محمد شكري في كتابه "غواية الشحرور الأبيض"، حرَّض فيه الكاتبَ العربيّ على اجتراح كتابة أدب أصيل يَصْدر عن مجتمعه وثقافته العربيَّيْن، ويُقدّم للعالَم تقاليدَ مختلفة في التصوير والتخييل والبناء. لقد لخّص مؤلِّف الخبز الحافي مأساةَ المُبدع العربي وخَلاصَه في هذه العبارات الدالة "محنة الكاتب العربي اليوم هي أنه مُطالَب بتطوير تقنيته وموضوعه أكثر من أي وقت سابق. إنه مزاحَم من الكتاب الغربيين في الأصل وفي الترجمة. (المترجم) 


الكتابة للغرب
يتكاثر عدَدُ الروايات المكتوبة من قِبل مؤلِّفين عرب لكي تُتَرجم - إلى الإنكليزية على الخصوص - بهدف إيصالها إلى القارئ الغربي. وباستثناء أعمال نجيب محفوظ، فإنّ الرواية ليست شكلاً شعبياً يُتداوَل بين الشعوب العربيّة، وربما لن تكونه أبداً، لأن ثقافتها تنضبط لقوانين مختلفة عن تلك التي أقامَها بِنِدِيكْتْ أَنْدِرْسِن في كتابه "المجْتَمعات المتخيَّلة"، والتي طبَّقها كثيرٌ من النُّقاد لاحقاً: يُشير الافتقار لتقليد روائي، حسب تعريف أنْدِرسْن، إلى نقصانٍ في القِيَم التي تُتيح الولوج إلى الحداثة. ويربط أَنْدِرسن ذلك الشكل السّردي بالتعبير عن مفاهيم مثل الأمة، التي قد لا يكون الشعر مؤهَّلاً للتعبير عنها. وجَليٌّ، مع ذلك، أنّ الميول القومية ليست بغائبة عن تراث العالَم العربي والإسلامي وعن حاضِره.

الكتابة للتّرجمة من أخطر ما يقع فيه بعض المؤلفين العرب

لقد استقصى إِمِرسُون وپاوْنْد وت.س.إليوت، على الرغم من مركزيتهم الإثنية، الثقافاتِ الشرقيّةَ، ولو أنهم لم يتوَفَّقوا دوْماً. لكنهم لم يقترفوا العبارة الفجَّة، على غرار جُونْ آپْدِيك، الذي أثناءَ عَرْضِه لروايات عبد الرحمن منيف "مدن الملح"، نصّ على أنه كان "مؤسِفاً أن المؤَلِّف يبدو مُفتَقِراً إلى الروح الغربيّة حتى يُنتِجَ سرداً يقترب من ذاك الذي نُسمِّيه نحن روايةً". 

يُمكن أن يُقالَ عن آپْدِيك الشيءُ نفسُه معكوساً، فوسائل الإعلام الغربية تُفردُ للعالم العربي مساحة سياسية كبيرة وغير هيّنة، اليومَ خاصة، لكنها لا تعمّق المعرفة بثقافة غذَّتِ الغربَ كثيرًا. إذن، وعلى غرار بعض الزملاء الصينيين، فإن بعض الكتّاب العرب لا ينتظرون قدوم الثقافة الغربية إليهم، بل يأتون في طلبها.

للظاهرة مَظهران متناقضان. ولا غرو أنه قد تكون الكتابة للتّرجمة بحثاً من المؤلِّف عن عودةٍ لكي يُقرأ من قِبَل الجمهور العربي. والأكيد، عموماً، هو أن دور النشر الغربية تكتفي عادةً بأن تَنشُر مترجِمةً عن تلك اللغةِ الرواياتِ التي تؤكد بصيغة ما المفاهيم المقبولة حول موضوعين مهيمنين: حال اضطهادِ المرأة وبروز الأصولية الإسلامية مجدَّداً. ومن الأمثلة الدالة على ذلك رواية "مِسك الغزال" ["نساء الرمل والمر" في الترجمة إلى الإنكليزية مِن قِبَل كاثْرين كوبهام سنة 1992]، للكاتبة اللبنانية حنان الشيخ. في الفصل الأول من الرواية، تُلاحَظ بوضوح الجهة التي توجَّه إليها: لا تُفسَّر الإشاراتُ الغربية المألوفة قليلاً أو غير المألوفة تماماً عند الجمهور العربي، لكنْ بتَرَف تفصيلي توصَفُ العاداتُ والممارسات الإسلامية التي هي بالتأكيد موصوفة بدقة كبيرة. وبين قوسين، لا يعدم من يؤكد، بسبب تفاصيل من ذلك النوع، أن مارْكُو بُولُو لم يصِل إلى الصّين أبداً، وأنه اقتصر على التقاط المعلومات من الشركات التجارية في البحر الأسود، إذ لا إشارة في كتابه إلى السُّورِ العظيم، أو العادة التقليدية المتمثلة في تصغير أقدام النساء بقباقيب من خشب تُفرَض عليهن منذ الطفولة. كلا الأمرين كانا يُثيران الإعجاب وردّ فعل من أيِّ زائر أجنبي.

يكتبون بالعربية والتفكير مشغول بقارئ أجنبيّ

سليم بركات، مؤلف سوري من أصل كردي يستقر حاليّاً في استوكهولم، يقدم في رواية "فقهاء الظلام" مَنظرًا يخضع بفظاظة للتصوّرات الغربية المسبقة. لهذه الرواية أوجه تشابه موضوعية غريبة مع رواية سلمان رشدي "آيات شيطانية" - التي نُشرت بالتأكيد لاحقاً - وهي محاكاة ساخرة تُفرِط في ما يُعتَبر نِفاقاً في العقيدة الإسلامية. والأكيد أن المحاكاة الساخرة لتقاليد الإسلام الدينية والجنسية والثقافية ليست شيئاً جديداً في الأدب العربي، منذ أبي نواس، "شاعر الخمرة" الشَّهير في القرن الثامن الميلادي، إلى نزار قباني، الشاعر المعاصر الأكثر شهرة في العالم العربي. لقد قُمِعت تلك الطريقة بقوّةِ التناوبِ أكثرَ من مرة. وتحظى تلك الطريقة في النظر إلى العالم بتقدير خاص من قبل أنصار اللغة، ولكنْ كلتا روايَتي بركات ورشدي يمكن تمثُّلهما محاكاةً ساخرة للإسلام، وأنهما صِيغَتَا للعيون الغربية، أكثر من كونهما انتقاداً للأنظمة الاستبدادية وغير المتسامحة التي تسود في "الشرق الأوسط".

أنْ تكتُبَ المرأةُ أو الرَّجُل من أجل أن يُتَرجَما هي مسألةٌ تتماسُّ، من بين أمور أخرى، مع قضايا متصلة بالسياسات، التي تقود ترجمة مُؤلِّفين ينتمون إلى ما يُسمّى "العالَمَ الثالث" من قِبل البلدان المُسمّاة بالدول المركزية، أي سياسات الطبع والاحتكار من قِبل دور نشْرها. وتُواصل هذه الدُّول بتغذية راجعة ما تَعُدّه ذوقًا غربيًا، وهكذا فإن التعددية الثقافية المتذبذبة كثيراً في هذا الحقل هي أمر ضيق الأفق بإحكام. ولا يسَعنا سوى أن نشك في دقة الترجمات، مثلاً، أبْعَد من عدم الدقة في الترجمات أو استحالة أي ترجمة. إن تاريخ اللغة العربية وآدابها لا يخضع للأنموذج الغربي في التقدم، الذي بمقتضاه يُنتَقل من الملحمة والشعر بالضرورة إلى الرواية. لقد اعتُبِرت اللغة العربية دائماً عملاً فنياً من قِبل مُتَكلِّميها، واعتُبرتْ تقاليدُها الأدبية شعريةً، قبل كل شيء. 

إننا لسْنا بمعزل عن الالتواءات المماثلة؛ ففي الولايات المتحدة، وكذلك في أوروبا لا تُنشَر ترجماتٌ للأعمال المكتوبة بلغات الأهالي مثل الزَّابُوتِيك أو النَّهْوَتِل، والتي نادرًا ما تظهر باللغة الإسبانية. والواقع هو أن العولمة تُفقِّر الشأنَ الثقافي بقدر ما تُفقِّر على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولا يُتَحدَّث عن الروايات المكتوبة تخصيصًا - بالحظ أو بدونه - للفوز بالمسابقات وبالجوائز جزيلة العطاء من دور نشر شهيرة، وهي طريقة للكتابة للغرب داخل الغرب نفسه. نتساءل أيَّ شيء سيبقى من كل ذلك. لقد نبَّهنا بَاوْنْد أنَّ كْرُونُوس وحدَه هو من سيقول ذلك ذات يوم.


بطاقة
شاعر أرجنتيني (بوينوس آيرس، 1930 - مكسيكو، 2014) برز أدبياً منذ ديوانه الأوَّل "كَمان وقضايا أخرى" (1956)، ونُوِّه به من قِبل كبار الشعراء المعاصرين. حصل على جائزة ثربانتيس سنة 2007، وهي أرفع جائزة للآداب تمنحها وزارة الثقافة الإسبانية، تقديرا لمجموع أعماله كأحد ألمع أدباء اللغة الإسبانية، واعترافا بإسهامه القيِّم والحاسم في إغناء التراث الثقافي القشتالي اللسان.

يتميَّز خِلْمان بكونه شاعرا ذا لغة شعرية تستقصي اللغة في ذاتها، في مراوحة بين الحميميّ والنقدي، وبأسلوب متفرِّد في الصياغة، وفي رؤية العالَم، من دون التخلي عن قضايا العصر والإنسان والالتزام بها سياسيّا واجتماعيا، مما جعله يُمضي اثنتي عشرة سنة في المنفى الاختياري بالمكسيك، جَرّاء تلك المواقف الاحتجاجية على الحكم العسكري في بلده، والتي كانت من عواقبها عليه اختفاءُ ابنه وكَنَّتِه الحامل.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون