يولد العربي كهلاً
في زماني هذا، لا حقّ للعربي في أن يحيا طفولته. لا يُولد الإنسان هنا طفلاً بل كهلاً، حاملاً على كتفيه المرهقين بالذاكرة ماضي أجداده، مرغماً. ماضٍ مشبع بالخطايا والذنوب، ينجب حاضراً مثقلاً بالهموم. يُولد العربي بتاريخٍ مشوّه تشوبه الآثام والأوهام والعيوب، يُولد بسردياتٍ لا ذنب له فيها، سوى أنها سبقت ولادته، فاستوطنت ذات المكان حيث وُلد هو مصادفة، ارتبطت باسمه، فأذعن لها خوفاً من فقدان الذاكرة.
يُولد العربي مسؤولاً عن حروب أمم خلت، فلا ناقة لحاضره فيها ولا جمل، لكنه يتقمّص شخصيات أصحابها ويتابع خوض هذه المعارك بشغف. يصون العربي إرث أسلافه بالمكان، فترى العرب لا يزالون يحيون موقعة الجمل فيما بينهم بالرصاص، ويخوضون الحروب مع أعدائهم بسيوفٍ من خشب. ترى العربي يمجد حرب البسوس ويتغزّل بداحس والغبراء. يفخر العربي بأساطير يؤمن بها حق الإيمان. الكل هنا يحسب أنّ جده عنترة، وأنّ خاله المهلهل، وعمه حاتم الطائي وباقي أسلافه أسوداً مزمجرة. في الحقيقة، لا يعرف العربي ماضيه حق المعرفة، بل يختلقه على مقاس خيباته الحالية كي يختبئ خلفه، خشية أن يواجه حاضره.
يحمل العربي واجبه الأبدي بقلبه منذ الولادة، بأن يكون حارساً وفياً للتراث المقدس، يرضع تراثاً، يشرب تراثاً، يأكل تراثاً، يلبس تراثاً، يصحو تراثاً وينام تراثاً. يحاجج العربي مناظريه بأقوال السلف لا بأقلام الحداثة، لأنه لا يؤمن بالعلم إلا ما لا يتعارض منه مع التراث، حيث يظنّ أنّ مفاتيح العلم والمستقبل كلها موجودة في ماضيه، وأنّ المشكلة تكمن في سوء استخدام هذه المفاتيح لا في المفاتيح نفسها. لم يدرك الإنسان هنا بعد أنّ المفاتيح القديمة تقف عاجزة أمام شيفرات الأبواب الجديدة. لقد كانت هذه المفاتيح فيما مضى جديدة. لقد فتحت بألقها الأبواب القديمة أمام من عاشوا ذات يومٍ هنا، لكنها اليوم صدئت، ولم يعد بريقها الخافت يجتذب عقول من يعيشون اليوم في ذات المكان. لا بد من إصلاحها، كي نفتح الأبواب الجديدة، ونعبر إلى الطرف الآخر من الحياة.
لا يعرف العربي ماضيه حق المعرفة بل يختلقه على مقاس خيباته الحالية كي يختبئ خلفه، خشية أن يواجه حاضره
قد تسقط تفاحة على رأس أحدهم، لأنه هزّ الشجرة. سيتألم قليلاً بلا شك، لكنه سيستمتع بمذاق التفاحة. ربما لن تكفيه تفاحة واحدة. سيهزّ الشجرة ثانيةً، لكنه سيتجنب وقوع التفاحة على رأسه هذه المرّة، سيستمتع بمذاقها دون ألم. كان لا بد له من أن يخاطر قليلاً، يتألم كي يتعلم. لكن ماذا لو أنه لم يتعلم، ماذا لو أنه لم يتجنب التفاحة، وظلّت تسقط على رأسه مراراً وتكراراً. سيعتاد الألم ويظن أنّ وقوع التفاحة على رأسه أمر حتمي، قدر مكتوب لا يمكن تجنبه، قانون من قوانين الطبيعة. بعد فترة من التكرار، سيهرع بنفسه كلّ مرة، يهزّ الشجرة كي تسقط التفاحة على رأسه، وذلك كي لا يخالف القدر ولا يخرق قانوناً من قوانين الطبيعة التي لطالما آمن بها.
في زماني هذا، يؤمن العربي بأنّ كل شيء قدر محتوم، فلا يسعى لتجنّب الأحداث، ولا لتغيير مسارها كي لا يشك بإيمانه الموروث. في زماني هذا، كلّ عربي يُولد مهموماً كحنظلة، فليته يفعل كما فعل حنظلة، يدير ظهره لماضيه، لعلّه يحيّي بحاضره مستقبل أبنائه.