هي بيضاوية وليست مستديرة
- لماذا أنت متوجس؟
يسألني صديقي الصحافي الذي يدعوني إلى جلسة حوارية على طاولة "مستديرة" يتساوى فيها جميع المشاركين، على حدّ تعبيره. فأردّ عليه بعد أن شاركني بكلّ تفاصيل الجلسة:
- لست متوجساً، لكنني أحبّ أن أسمّي الأشياء بمسمّياتها، فهذه ليست جلسة حوارية، إنّما مناظرة.
- لا أرى فرقاً بين هذا وذاك. يقول.
- بلى يا صديقي لو كانت جلسة حوارية لكنّا سنتحاور في موضوع مترامي الأطراف، كلّ منا سيبدي رأيه من دون أن يتشبّث به. قد يبدل أحدنا من فكره، بناء على ما يقدّمه الطرف الآخر من رؤية. لكن في المناظرة سيدخل كلّ منّا متشبّثا برأيه، متعصبًا لفكرته وسيدافع عنها بالمنطق واللامنطق.
- وهل تخشى أن تُناظر أطرافاً أخرى، وأنت الذي تقول دوماً بأنّك على حق وصاحب قضية؟ يضيف صديقي الصحافي.
-لا أبداً، لكنّي لن أدخل مناظرة لا تنصفني، فأنا لا أجد أنّنا متساويان.
- سأمنحك الوقت الذي تحتاجه لتردّ على الطرف الآخر، وستكونان على طاولة مستديرة.
- الوقت حق لي أساساً، وسيلعنك الجمهور إن منعته عنّي، والطاولة بيضاوية وليست مستديرة، وهذا يعني أنّنا لسنا سواسية. فالطاولة بيضاء اللون وشعري أسود كالليل. مازال نظيري يتقدّم عليّ بنقطتين مقابل لا شيء حتى قبل أن نبدأ. النقطة الأولى: أنّه لا يختلف مع تصوّر الجمهور، فهو يحمل معه وعياً جمعياً حصيلة قرنين من الزمن مدججين بالاستشراق. هذا الوعي المتأصّل في مخيلة العامة لن يتحوّل ببضع أفكار يقدّمها شخص مثلي يحمل شعراً أسود كالليل. لكنّني سأسامحه بهذه النقطة وسأتركه متقدّماً بها عليّ، ليس كرماً منّي لكن لا خيار لديّ. المسألة بالنسبة لي، هي في النقطة الثانية.
حينما أتحدث بالعربية أشعر بأنّ ثمّة حائطا صلبا وراء ظهري يسندني، فإذا ما اختل توازني لن أقع
- وما هي؟ يسأل صديقي الصحافي بشغف لعله يستطيع إيجاد حلٍّ لها.
- اللغة. فهو سيتحدث بلغته الأم، لغة مولده، لغة والديه وجديه. أمّا أنا فهل سيكون لي أن أتحدث بالعربية؟
- لكنك تتحدث الهولندية، وإن شئت فلتتحدث بالإنكليزية، وأنت تتقن كلتا اللغتين.
- وكلتا اللغتين ليستا بلغتي الأم. فأنا لن أشعر بالراحة ما لم أتحدث بلغتي الأم، لغة مولدي وأجدادي. حينما أتحدث بالعربية أشعر بأنّ ثمّة حائطا صلبا وراء ظهري يسندني، فإذا ما اختل توازني لن أقع. هذا الحائط يمتد لأعماق تراثي. إنه إرث نتناقله عبر الأجيال، وكلّ جيل يضيف عليه لبنة، فصار كسدٍ منيع يحميني، كذاك الذي يفصل عالمنا عن أسطورة يأجوج ومأجوج. صحيح أنّني أتحدث الهولندية بطلاقة ومثلها الإنكليزية، لكن ظهري مكشوف، لا أشعر بأنّ ورائي سوى فراغ، فإذا ما أطاحت بي ريح عابرة لن أجد خلفي ما يسندني. وربّما لا يحتاج الأمر سوى نسمة كي أصبح خارج الطاولة.
- لكنك قد تقع في جهة أخرى يا صديقي، حتى وإن كان وراءك حائط صلب يسندك! يقول صديقي الصحافي.
- صحيح كلامك، فلا أحد معصوم من ساعة غفلة، لكنّي حينها لن أسقط على ظهري، إنّما على جنبي، وسيكون سهلاً عليّ أن أستند بيديّ على ذات الحائط وأقف ثانية وأواجه.
- إنني أفهمك الآن، لكنّنا استوديو محلي ناشئ، وليس لدينا ميزانية كافية ولا متسع من الوقت لكي نجلب لك مترجماً فورياً يمنحك فرصة التحدّث بلغتك الأم.
ابتسمت لصديقي الصحافي وقلت: لا يبدو أنك تفهمني، فلا يحتاج الأمر لمترجم، ولا حتى لبرنامج بطاولة بيضاوية، بل يكفي أن تستعرض حقيقة ما يحدث، ولنسمع جميعاً رأي الجمهور، ولو لمرّة واحدة.