عن حدود الاستعمار وحدود الذاكرة

24 اغسطس 2023
+ الخط -

في سنتي الدراسية الثانية كان لديّ مقرّر دراسي بعنوان "تاريخ الشرق الحديث". وفي إحدى المحاضرات، تناول الأستاذ المحاضر اتفاقية سايكس بيكو التي قسّمت الدول العربية الواقعة شرق المتوسط بين الاستعمار الإنكليزي ومنافسه الفرنسي، آنذاك. 

لم يكن في ذلك ما هو جديد عليّ، حتى أنّني لم أكن لأحتاج أن أقرأ المقالات المرتبطة بالموضوع، إلا أنّ النقاش الذي كان يدور بين طلبة غربيين، فَتح ذهني على تفسيرات مختلفة، لم أكن لأفكّر فيها من قبل. آراء تبدو بديهية ومنطقية، وكان من السهل على المرء أن يفكّر فيها لو لم يُشبع وعيه منذ الطفولة بالأفكار السلطوية، ثمّ تعميق هذه الأفكار، وبشكل ممنهج، بما لا يسمح للمرء بأن يرى غيرها في ما بعد.

وكنت أقول في نفسي دوماً بأنّ الباحث عادة ما يدرس النظرية ثم ينطلق للتعرّف على مدى صحتها من خلال التجربة العملية، أما أنا فقد قُدِر لي العكس. قُدِر لي أن أُولد في الشرق، وأعيش هناك طفولتي وجزءا من شبابي حتى يتشكّل وعيي وينضج فكري الذي هو غالباً نتاج تفاعلي مع محيطي من العائلة، الشارع، المدرسة، المجتمع، أفكار الحزب الحاكم والسلطة… ثمّ تسنت لي الفرصة لاحقاً لمراجعة وعيي هذا من خلال البحث النظري، حيث كانت كلية الدراسات الشرق أوسطية في أمستردام لاحقاً، أشبه بمنظار لإعادة تقييم عالمي الخاص من خلال نظريات أكاديمية عن الشرق، نظريات قد تخطئ حيناً وتصيب حيناً، لكن المهم في ذلك أنها كانت تفتح باب الفكر على مصراعيه أمام احتمالات جديدة، لم يكن المرء ليفكّر فيها في ظلّ بيئته التي وُلد وترعرع فيها، حتى وإن كانت بديهية، ولا تحتاج إلى مجهود ذهني كبير في بعض الأحيان. 

في نهاية تلك المحاضرة، طرح أحد الطلاب (أذكر أنه كان بريطاني الجنسية) التساؤل الآتي: "كيف قبل العرب الحدود التي أُمليت عليهم من أعداء خارجيين بتلك البساطة؟ ولماذا حافظوا على خطوط تلك الحدود بصرامة بعد أن غادر الاستعمار بلادهم؟".

حينما  أراد العرب أن يبنوا لأنفسهم وطناً مشتركاً، اتفقوا على الوطن واختلفوا على شكل هذا الوطن

ربما كنتُ الطالب الوحيد في المحاضرة القادم من بلادٍ مازالت ترمي بكلّ مشاكلها الحالية، وعقدها الماضوية، على  المؤامرات الخارجية، فلم يخطر مثل هذا التساؤل البديهي في ذهني مسبقاً. وذلك لأنّ وعيي مُشبع منذ الولادة بفكرة مفادها بأنّه لولا الاستعمار لكان لنا وطن مشترك أشبه بمدينة أفلاطون الفاضلة يُدعى الوطن العربي، وأنّ الاستعمار وحده (ولا شيء آخر غيره!)، هو المسؤول عن تحويل هذا الوطن من الجنة إلى الجحيم.

حينما سمعت ذلك السؤال من زميلي، قفزت فجأة إلى ذهني فكرة، لم تخطر على بالي من قبل، إذ قلت في نفسي "ربّما لأنّ الحدود في العمق لم تكن صنيعة الخارج، إنّما هي حدود القبائل والطوائف ذاتها التي عرفها العرب في الماضي وتقاتلوا في ما بينهم، بسببها وما وراءها"!.

 وحينما  أراد العرب مؤخراً أن يبنوا لأنفسهم وطناً مشتركاً، اتفقوا على الوطن واختلفوا على شكل هذا الوطن. وبدلاً من أن يستخدموا أدوات الحاضر لرسم ملامحه، عادوا إلى الماضي لفعل ذلك. فقال أحدهم: "إنّ هذا الوطن يجب أن يكون إسلامياً خالصاً"، فأجاب الآخر: "لكن لا بدّ له أن يكون سنيّاً كما أراده معاوية". رفض ذلك آخر، وقال: "يجب أن يكون شيعيّاً كما كان له أن يكون لو أنّ عليّاً وسلالته استمروا في الحكم". ثم قال آخرون لا هذا ولا ذاك: "هذا الوطن يجب أن يكون عربياً اشتراكياً لأنّ كليب كان سيجعله كذلك لو لم يقتله جسّاس". ثم ردّ آخر: "ولماذا لا يكون عربياً تحرّرياً كما أراد له جسّاس حينما رفض طغيان كليب". لكن آخر خالفه وقال: "يجب أن يكون عربياً، لكن لا اشتراكياً ولا تحرّرياً، إنما قوياً عنيفاً كما اختار له الزير سالم أن يكون". 

إنّ العرب لم يتشبثوا بحدود الاستعمار، إنما بحدودهم هم، فتلك الحدود ضاربة الوجود في عمق الذاكرة العربية. ولذا حينما قرّر العربي إحياء ماضيه المجيد، أحيا كلّ مشاكل الماضي معه. أمّا الاستعمار، فقد عرف كلّ ذلك عندما استخدم العلوم الحديثة كعلوم التاريخ، الذاكرة والأنثربولوجيا وغيرها، فتمكن من إعادة رسم هذه الحدود لمصلحته بالقوة العسكرية، وقبلها الناس بقوة الذاكرة وتشبّثوا بها بقوة الماضي. فالأمم المتقدمة تدرس الماضي لتتعلّم من أخطائه، أمّا الأمم المتأخرة فتقرأ ماضيها لتعيد إحياءه.