وجهان لعملةٍ واحدة
أقيمت الولايات المتحدة الأميركية على أنقاض السكان الأصليين الهنود الحمر، كما أقيمت إسرائيل على عظام وأرض الفلسطينيين، حيث تتشارك الاثنتان من حيث التأسيس "باللاهوت" السياسي والاستيطاني نفسه.
بالعودة إلى التاريخ، تاريخ الدولتين، نجد أنهما يتقاسمان الأسلوب الخطابي ذاته، من حيث التكوين والنتيجة عليه؛ فعلى سبيل المثال، في أميركيا، استخدم كريستوفر كولومبوس في وصف القارة أو القبائل التي كانت تعيش كباقي البشرية، ولديها ثقافتها وتاريخها الراسخ وحياتها اليومية مثل الآيزتيك والإنكا والمايا وغيرهم، استخدم في وصفهم مصطلحات تجعل العالم ينفر منهم، وينكر عليهم وجودهم، كتشبيههم بـ"الهمج، الذين يتصوّرون العالم كلّه جزيرة، ولا يعرفون ما هي القارّة، وليست لديهم الذكريات الراسخة"، ويضيف أنهم: "هنود يأكلون اللحومَ البشرية". وبهذا يريد أن يوصل للعالم، أن السكان الأصليين عبارة عن همج، وأغبياء، لا يتمتعون بأي موروث ثقافي أو تاريخي، بل على العكس، هم مجموعة من البربريين الذين يأكلون اللحم البشري.
والأنكى من ذلك، استخدم كولومبوس في خطابه مصطلح "اكتشاف"، والقصد "اكتشاف المكان الذي تعيش القبائل فيه"، ويضيف بأنه يحتوي على "نهر عظيم" و"بحر مياهه عذبة". يسعى من هذا الأمر، إلى تغييب الطرف الآخر، وتحميل المكان فكرة الجمال المثالي الذي لا يمكن أن يسكنه إلا "الجميل المثالي"، حيث لا وجود "للقبيح" أو البربري فيه.
أما فيما يتعلّق بتاريخ إسرائيل وخطابها الاستعماري، كانت وما زالت تتقاطعُ في خطاباتها والخطابات الأميركية؛ فمنذ عصر الكاتب النمساوي اليهودي ثيودور هرتزل، تحديداً منذ صدور كتابه المبني على العنصرية حتى في اسمه، حيث سمّاه "دولة اليهود"، أي الدولة التي لا يكون فيها أيّ بشري غير اليهود، فالآخر هو ليس بشرياً حتى؛ نجد أنه أشار إلى فلسطين بكونها "أرضاً بلا شعب"، على الرغم من أنها كانت تنعم بالحياة، ولديها شعبها المثقف والمزارع والفلاح والتاجر، كما لديها موروثها الثقافي والتاريخي، لكن، في محاولة هرتزل الصهيونية لتوطين اليهود في فلسطين، استخدم هذه العبارة، وجعلها مكتملة حينما وصف اليهود المشتتين في بقاع الأرض بأنهم "شعب"، فاكتملت صهيونية العبارة، وتمثّلت بكيانها المكتمل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". ونجد التفسير في ذلك، لا يقود إلا محاولةً من الحركة الصهيونية المتمثلة بهرتزل آنذاك، إلى تغييب الطرف الفلسطيني من المعادلة، وبالتالي حصولهم على ضوء أخضر ليعيش "الشعب اليهودي" في البقعة الجغرافية "الخاوية" من أي شعب.
استخدم هرتزل الخطاب الديني غطاء على خطابه الاستعماري، وجعل من الدين حافزاً رائعاً لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين
إضافةً إلى ذلك، استخدم هرتزل الخطاب الديني غطاء على خطابه الاستعماري، وجعل من الدين حافزاً رائعاً لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين. فلسطين التي وصفها بأنها "أرض الميعاد" أو "الأرض الموعودة"، بمعنى أن ربّه وعد موسى بأن يلتقي اليهود من كل الشتات في فلسطين. أما فيما يدحض هذه النظرية، يقال في التوراة إن اليهود في حالة انتظار للمسيح الذي لم يأتِ بعد بالنسبة إليهم، فهو من سيخلّصهم من عذابات الحياة، ويلم شتاتهم في دولة واحدة، هكذا هو واقع الأمر بالنسبة لإيمان اليهود. لكن، بالعودة إلى الواقع الذي نعيشه، والتاريخ، نجد أن هرتزل كان بمثابة المسيح السياسي المخلّص لمعاناة اليهود في العالم، وكان ربّه بمثابة "طابو" يوزّع الأراضي على عباده " الثّكالى والصالحين".
في نهاية الأمر، إذا أردنا المقارنة ما بين خطاب الاستعمار الأوروبي لحضارة الآيزتيك والمايا وغيرها، وما بين خطاب الاستعمار الصهيوني لفلسطين، من حيث المبدأ والتكوين، فكلاهما يتّفقان على فكرة تغييب الطرف الآخر تماماً، خطوة أولى للاستعمار، فالأول استخدم مصطلح "اكتشاف"، والثاني استخدم عبارة "أرض بلا شعب"، والعبارة والمصطلح يُفيدان المتلقي بعدم وجود الطرف الآخر أصلاً، مما يجعل المتلقي يميل إلى فكرة الاستعمار لتلك الأرض الخاوية.
كما يتفق الاستعماران على شيطنة الطرف الآخر؛ فمثلاً عبارة "هنود آكلون اللحوم البشرية" ومصطلح "الهمج" الذي استخدمه كولومبوس أيضاً في وصف السكان الأصليين. إلى جانب محاولات هرتزل في غرس أفكار تتمثل بعدم وجود شعب فلسطيني أصلاً، أو وجوده ولكنه عبارة عن "بدو" لا يعرفون شيئاً سوى حلب الماعز، أو في أيامنا الحالية، نشهد استخدامات كثيرة لإسرائيل فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة، ووصفهم بالبرابرة والوحوش البشرية.
إن كل هذه الاستخدامات للعبارات والمصطلحات التي تشير إلى شيطنة الطرف الآخر من قبل المستعمرين، تكون لغايات تتمثل بأن يتسنى لهم، بسهولة، إقناع العالم المتلقي خطاباتهم بضرورة استعمارهم، وضرورة أن يعملوا على فكرة القضاء على ما تبقى من هؤلاء الشياطين والهمج والبرابرة، وضرورة البدء بحملة غزو ثقافي وفكري ووجودي وعسكري عليهم. وفي المحصّلة، يكسب الاستعمار تأييداً دولياً لأحقيته في الوجود، ولقراراته في الاستعمار والقتل والإبادة، كما أنه يكسب صمتاً عالمياً فاضحاً لصرخات السكان الأصليين الضحايا أمام ضرباته.