هل سنعود لكتب التاريخ الذي كنا يوماً أسياده؟

18 مارس 2024
+ الخط -

لا تخفى على أحد محاولات الدول الغربية المستميتة بعد نهاية مرحلة الاستعمار المباشر فرض قيمها ورؤيتها على العالم والشعوب كافة بمختلف الأساليب والطرق المبتكرة.

فتارة تُفتعل الحروب الطاحنة باسم الديمقراطية والسلام مثلاً، وتارة أخرى تُفرض العقوبات الاقتصادية وما يتبعها من تجويع ممنهج للشعوب بدعوى حماية المظلومين والدفاع عن حقوق الإنسان.

كل هذا العنف المعرفي والاقتصادي والعسكري الظاهر منه والباطن وطّدته ماكينة إعلامية لا تتوقف عن التصوير الممنهج لكل ما هو ليس غربي الهوى كمتخلف ومعادٍ للتحضر وبالتالي هدف مشروع لما يمكن أن نطلق عليه «عملية التربية الديمقراطية الغربية».

فمن منا لا يتذكر على سبيل المثال الهجوم الغربي المتعجرف على منظومة القيم الاجتماعية الخليجية أثناء بطولة  كأس العالم لكرة القدم في قطر العام الفائت أو حتى كلمات الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية جوزيف بوريل الذي وصف -في هفوة صادقة عكست حقيقة طبيعة السياسة الغربية الفوقية المتعالية- العالم بالغابة وأوروبا بالحديقة في محاولة ماكرة لشيطنة ما تبقى من شعوب العالم وتحميلهم وزر مآسيه.

الأمر لا يتعلق هنا بمعاداة الغرور الغربي أو مقاومته أو حتى تقبله وإنما بسرد الوقائع على أقل تقدير في محاولة لفهم طبيعة العالم الذي نعيش فيه وسياسات حكامه الديمقراطيين الخارجية التي لا تمت للديمقراطية بصلة.

لا يمكن التعامل بكفاءة وتوازن وندية مع القوى المتسلطة إلا من موقع القوة المتناسب مع متطلبات العصر

لا بد من التأكيد في هذا الصدد أن إلقاء اللوم على الغرب فقط وتحميله المسؤولية الكاملة لحال بلادنا المؤسف -المتمثل في غياب النهضة المرجوة والتراجع المعرفي المُحبط وسطوة الأنظمة الشمولية الهدامة- ليس إلا محاولة بائسة للتملص من المسؤولية التاريخية المتمثلة في إدراك مكامن الضعف لدينا ومحاولة الإصلاح الاستراتيجي الشامل على كافة الأصعدة. حيث إن المنهجية القائمة على مبادئ التغيير المستمر والتجديد الهادف والتأقلم المَرن مع خصائص العصر وتحديات المراحل التاريخية المختلفة تعد حجر الأساس لنجاة الأمم ونهوضها، ومن يتجرأ على هجرها، يكون قد كتب على نفسه مرارة التهميش وربما لعنة الفناء.

لا يمكن التعامل بكفاءة وتوازن وندية مع القوى المتسلطة، إلا من موقع القوة المتناسب مع متطلبات العصر. لم ولن يُكتب يوماً لمن تقمص دور الضحية التفوق والازدهار أو حتى سيادة نفسه. من هذا المنطلق يمكن التعامل مع التحديات التي تفرضها توازنات القوى السياسية في العالم بالتركيز على مكامن القوة في الداخل الوطني وتعزيزها، وإدراك مكامن الضعف أيضاً والتعامل معها بحنكة ودراية وتواضع تام.

إن تحقيق الرفاهية والازدهار والتمتع بالنفوذ بكافة أشكاله لا يُمنحان قطعاً بل يُكتسبان بإتقان فن التحدث بلغة العصر المتمثلة في التمكين الاقتصادي البناء المتجذر في السياسة العامة للدول والبراعة في التعامل مع الواقع وتطويعه لخدمة المصلحة الوطنية العامة عوضا عن طمر الرؤوس في الرمال وتمجيد المتخاذلين من أصحاب الشعارات الرنانة كلما عصفت الأزمات وكثرت دعوات التغيير. 

إن الحقيقة غالباً ما تكون ساطعة وجليّة لمن خرج من عباءة التحيز. من المهم جداً في هذا الإطار أن ندرك جيداً موقعنا في هذا العالم الذي يمر في فترة تحول وتغيير كبير على كافة المستويات. إن التعددية القطبية التي تتشكل معالمها الآن سوف تجلب معها الكثير من التحديات التي قد تكون غير مسبوقة بسبب طبيعة العصر الرقمي الذي نعيش فيه، وإذا ما أردنا الارتقاء إلى مصاف الكبار في خضم هذه المرحلة التاريخية المفصلية علينا أن نستثمر بأنفسنا ونضع الأسس الصلبة لبناء كتلة أو كتل اقتصادية متكاملة موحدة ترتكز على فكرة التمكين الاقتصادي الوطني للدول الأعضاء والاستفادة من الخزان البشري الهائل الذي أمسى عملة نادرة في الدول الصناعية الكبرى.

هناك فرصة تاريخية نادرة تلوح في الأفق إثر تراجع النفوذ الغربي القادم لا محالة وبروز قوى أخرى تبحث عن تعزيز دورها وبناء شراكات استراتيجية بعيداً عن السياسات الاستعمارية المختلفة التي أنهك الغرب فيها العالم. فهل سنعود لكتب التاريخ الذي كنا يوماً أسياده أم سنكتفي بالفرجة والتصفيق ونغدو كما جرت العادة في الآونة الأخيرة مركزاً لتصفية الحسابات وصراع النفوذ بين الدول الكبرى؟

صورة
جابر محمد
خريج ماسترز في الدراسات الإنكليزية والأمريكية في ألمانيا .. مهتم بالشأن العام العربي والعالمي.