عن ترانيم العِشقِ والمسرح الرقمي

17 ابريل 2024
+ الخط -

هناك حيث تقطن النجوم عالياً، يتربّع عرش الأمل للناظرين للأعلى، تأملاً واصطفاءً، في روعة المشهد الليلي عندما يكون ملكوت السماء صافياً لا يُعّكر سرمديته سُحب الغيوم العابرة، وضجة الألسنة والآلات والأجهزة التي تحتل كينونتنا عنوةً على مدار اليوم.

تَلمَعُ العيون وتتسع القلوب ويصبح الحبُّ سيّد الموقف. يسكت صوت العقل احتراماً لاختلاجات القلب الخافقة المفعمة بالعاطفة النقية التي تخلع قيودها متحررةً من كلِّ الاعتبارات الاجتماعية وسرديّتها المُثقِلة القوية. الآن، وفي مثل هذا اللحظات العليلة التي يُخاطب فيها الصمت أرواحنا، تتجلّى ترانيم العشق اللامُبالية بالواقع، فتختفي منغصّات الحياة وضجة العوالم المادية الفارغة من الشجن الإلهي المُحَبَّب إلى قلوبنا. 

كلُّ شيءٍ من حولنا تحوّل تقريباً إلى ترويج وتسويق لصورٍ معيّنة عن طبيعةِ الحياة المثالية. يصوّرون لنا الجمال مثلاً ضمن قالبٍ وإطارٍ معيّن، وكلُّ من يخرج عن هذه الصورة النمطية لا يُصنّف جميلاً، وكأنّنا فقدنا النظر والإحساس وهجرتنا الفطرة. ثم يحدثوننا على المقلب الآخر عن علاقاتنا العاطفية، وكيف نجعلها مثالية وسعيدة، وكأنّها الوصفة السحرية الحصرية التي إنْ وظفنا مقاديرها بعناية، أصبحنا من السعداء المُبتهِجين!

هناك حالات شعورية وجودية عظيمة لا تُشترى ولا تقدر بثمن

المضحك المبكي في مثلِ هذا النوع من الظواهر المُستذكية بغطاء من اللازَورد الفكري، أنّنا أصبحنا غالباً نتعلّم من التعساء عن سرِّ السعادة، ومن فقراء النفس كيف نصبح أغنياء، ومن القلقين نعمة الطمأنينة. أصبحوا يُدَرِسوننا كيف نُغازل، وكيف نُعانق بريق العيون اللامعة الجميلة ببلاغةِ اللغة وكلماتِ الحبِّ المُنمَّقة، ثم ينهالون علينا بالإرشادات عن مهارة التحدّث وتطويع اللسان، وفن الجلوس التشكيلي وتسريح الجسد!

لم يسلم شيء من عِلمِهم النادر ومعرفتهم المُلهِمة الشيّقة التي قد تدفع الإنسان إلى البحث عن عوالم كُتِبَ لها النجاة من نشاز أصواتهم، وأنغام حكمتهم المُهَلهِلة. لا عنصر تشويق بعد الآن، لا فضول وبحث واستكشاف. لا تَرَاقُص مع نبضات القلب الخافق وشهقات النَّفَسِ المُتَسارِعَة المُتَفاعِلة مع لحظاتِ الوصول إلى اللا شيء وكلُّ شيء. مسرح رقمي كبير وأدوار بالمجان وجمهور مُتَعَطِّشٍ مسكين يبحث عن السعادة في قمقم الكآبة المزمنة. اختفت البساطة والعفوية الرائعة، بينما كَثُرَت مدارس التمثيل، وغُيِّبت بهجتنا الفطرية.

يوماً ما سوف يُدرك هذا العالم الغريب، المُندفع بحجة التطوّر والتنمية إلى الأمام بلا هوادة، أنّ التطوّر الحقيقي والتنمية المُستدامة تكمن بالرجوع إلى الخلف، والتنقيب عن بقايا الإنسانية في جوف الإنسان الذي تحوّل إلى آلةٍ تخدم آلةً لتُنتِجَ آلة أخرى في البلدان المتطوّرة التي تتسابق الدول للحاق بركبها. نعم، هذه الدول متطوّرة، صناعياً وتقنياً واقتصادياً، ولكن الإنسان والمشاعر الإنسانية تُقتَل فيها أيضاً كلَّ يوم، حيث تجد الإنسان يَتَمَّلَكُ فيها كلّ شيء تقريباً ولكن تغزوه الوحدة، ويَهجُرُه الحب، وتفارقه الطمأنينة ودفء العاطفة والمشاركة الإنسانية إلا من رحِمَهُ ربي وتمكن من القفز من عجلة الهامستر التي لا ترحم أحداً ولا تستكين أبداً.

حتى لو تملّكنا هذا العالم المثير وطفنا كلّ شبرٍ من ربوعه الخلابة، لن يضمن ذلك لنا الشعور بالحُبِّ والسعادةِ الحقيقية

مما لا شك فيه أنَّ لكلِّ شيء إذا ما تم نقصان، وأنَّ الأنا الإنسانية ليست مجبولةً بشكلٍ تلقائي على الرضا. تتقاذفنا الحاجات والرغبات وقد ترسو بنا على شواطئ لا نُحَبذها ولا تروق لنا، لكن الأيام تثبت لنا في كلِّ لحظة أنّنا حتى ولو تملّكنا هذا العالم المثير، وطفنا كلّ شبرٍ من ربوعه الخلابة، لن يضمن ذلك لنا الشعور بالحُبِّ والسعادةِ الحقيقية ولا التَمَتُّع يوماً بالطمأنينة المُتجذرة أو النصر الحاسم على داءِ القلق القابع في فؤاد العصر الرقمي. هناك حالات شعورية وجودية عظيمة لا تُشترى ولا تقدر بثمن، ولا يمكن أن تُستَبدل بالحبوب والعقاقير المُتَطَوِّرة وغيرها من المُغيِّباتِ الكثيرة التي تفتك بإنسانية الإنسان وتستثمر في جهله.

تُحَدثُني النجوم وأُحَدثُها، أختَرِقُ صفو ملامحها بنظراتي الحالمة المُتأملةِ، وتَختَرِقُ هي عناوين تَلَخبُطِي وتُعيدُني إلى رُشدي. كلُّ شيءٍ يبعد الإنسان عن بهجته الفطرية المُطمَئِنة، وعشقه المتناهي لهذا الكون الفسيح لا يُعَوّل عليه، ولا يمكن أن يندرج تحت خانة التطوّر الإنساني. الإنسان ليس آلة أنانية يتم شحنها بالطعام والشراب والجنس، وما قد يُضاف إليها من بعض الحوافز الترفيهية، بعيداً عن المشاعر الإنسانية النبيلة، وروعة الدفء الماورائي والاستقرار العاطفي السليم الذي يعدُّ أهم عوامل سعادة وبهجة الإنسان وصحته النفسية.

صورة
جابر محمد
خريج ماسترز في الدراسات الإنكليزية والأمريكية في ألمانيا .. مهتم بالشأن العام العربي والعالمي.