النُخبة العربية وقناع الفيلسوف فانون
لا تلبث الكثير من قاماتِ النخبة العربية أن تعتلي المنابر والمنصّات حتى يبدأ الخطاب الشيّق بأناشيد الحضارة والتَحَضُر المُصَّنَعَة وصراعها الأزلي مع ما تُسميه ألحان الرجعية والتخلّف الناشِزة بنغمةٍ فوقيةٍ مضحكةٍ مبكيةٍ، أقلّ ما يمكن أن يقال عنها تلطُفاً: إنّها كوميديا سوداء هابطة مستوردة من معامل التعليب الفكري الخالية من مُنَغِصات التفكير النقدي، وما قد يجلبه معه على ما يبدو من حساسيّة فكرّية مُفرطة قد تؤدي إلى الهذيان المعرفي وفقدان نشّوةِ فقاعةِ التَكَبُّرِ المُتَحَضِّر المُستَلهَم من عواصم الأُبّهة الأبيّة.
إنّ العلم والتعلّم والاستفادة من عُصارة العقول النابغة، بِغَّض النظر عن منشّئها ما هو إلا منحى وجودي حتمي، يستهوي كلّ من أراد الارتقاء إلى مستوياتٍ عاليةٍ من الاستقلال الفكري الذي لا يتولى عروشها إلا من تجرّأ على التنقيب عن المعرفةِ بشغفٍ كما يُنَقّبُ عُشّاق الثروةِ عن الذهب في أراضي الله الواسعة. ولكن هذه الاستفادة التي لا تقدّر بثمن، لا تمتُ بتاتاً بصلةٍ للنهج المُضلّل الذي يتغنّى فقط، برونقِ الأسماء الرنانة بسبب صبغتها الأجنبية، ويتبنى أفكارها بشكل شبه مقدّس. كمن يكتب قصائد الغزل في عالِم الاجتماع الفرنسي الكبير، أوغست كونت، على سبيل المثال٬ ويغفل أو يتناسى حتى أن يذكر اسم مؤسّس علم الاجتماع العبقري، ابن خلدون، بسبب منطوق اسمه العربي ربّما! هذا النوع من الخطاب المتعجرف لا ينطبق عليه إلا حديث الفيلسوف فرانز فانون (من كتاب: بشرة سمراء٬ وأقنعة بيضاء) عن قناع الرجل الأبيض الذي يرتديه المُستَعْمَر الذليل ذو البشرة الملوّنة حتى يسترضي المُستَعْمِر المتفوّق ذو البشرة البيضاء٬ ويُدلّل على تحضره وقدرته على التعبير عن نفسِه بنفسِه، من خلال تَقَمُّص شخصية وخطاب رُعاته بلا تفكير.
انطلاقاً من هذا المبدأ، يخرج علينا للآسف عدد لا يستهان به مما يسمّى بالنخبة العربية متفاخرين مثلاً بعدم إتقانهم اللغة العربية، وكأنّها وصمة عار ومصدر للتخلف. فنجدهم حريصين على الخلط المُتعمّد بين اللغة العربية والفرنسية والإنكليزية في محاولةٍ بائسةٍ لإظهار الفجّوة المعرفية بينهم وبين المُتلقي الذي قد لا تسعفه مهاراته اللغوية من فهم ما يجري. فتارة، يبدؤون الجملة بالفرنسية ثم يترجمون ما ذكروه بلغةٍ عربيةٍ مضطربة، فيزيدون الطين بلّة٬ وتارة أخرى يُترجم المحاور ما قيل كنوعٍ من الشفقة والعطف على المتلقي الذي قاده الحظ العاثر في لحظةٍ من سخريةِ القدر للتعرّف على قناع الفيلسوف فانون ومُرتديه الأشاوس من خِيرَةِ القومِ.
لماذا لا ينسجم النخبوي العربي٬ مع بيئته ويُشعر المتلقي بالدفء المعرفي، بدلًا من البعد والجفاء؟
على المقلب الآخر من هذه المجرّة، والتي دائماً ما تُتحفنا بظواهرها العجيبة٬ لا يُفضّل غالباً، أيّ شخص بسيط تُقابله في الشارع في عواصم الأُبّهة الأبيّة، حيث تقطن الأسماء الرنانة، التحدّث بلغةٍ أجنبية إلاّ إذا كانت الضرورة القصوى أو المصلحة الشخصية تقتضي ذلك٬ فلماذا لا تَستَلهِم النخبة العربية المذكورة هذه الخصلة وتتبناها بشكلٍ شبه مقدّس أيضاً؟ ولماذا لا ينسجم النخبوي العربي٬ بعيداً عن التعميم طبعاً، مع بيئته ويُشعر المتلقي بالدفء المعرفي، لا بالبعد والجفاء؟ وكيف للمتلقي الناطق بلغته الأم العريقة أن ينال قسّطَهُ من المعرفة الرنانة إذا كان لا يستوعب دهاليز ظاهرة "الانفصام اللغوي" المُستشرية إن صح التعبير؟
بناءً على ذلك ومن باب التذكير، تُعّد اللغة بجوهرها وسيلة تواصل أساسية، وليست معيارا ذهبيا لقياسِ المعرفة٬ حتى ولو كان إتقان اللغات المختلفة قد يفتح الكثير من الأبواب الموُصدة ويعزّز بقوة عملية اكتساب المعرفة. من هذا المنطلق، لا بدّ للنخبوي العربي بشكل عام من التوازن والتناغم مع كافة المُتَلقين من بيئته٬ وإبداء نوعٍ من الحرص على نوعيّة الرسائل المّراد إيصالها بحكمِ حجمِ المسؤولية التي من المُفترض أنّه يحمِلها.
تجدر الإشارة في النهاية تعقيباً على ما سبق، أنّه لا يمكن الإنكار أنّ هناك الكثير من العلوم غير المعرّبة، أو بالأحرى التي لا يمكن دراستها أو التبحُّر في عوالمها، إلا من خلال إتقانِ بعض اللغات الأجنبية٬ ولكن هذا لا يعفي مُعتَلي المنابر من مسؤوليةِ المحاولة بصدق لخلقِ قنواتِ تواصلٍ حقيقية مبنية على الاحترام المبدئي للمتلقي، وكذلك نقل المعرفة بهامش من الموضوعية الرائدة، بالإضافة إلى تشجيع التفكير النقدي المتعمّق من خلال التركيز على مبادئ المقارنة والمحاكمة العقلية الفعّالة للأفكار قبل الخوض في مسألة تبنيها أو دعمها والترويج لها.