هل الزلزال انتقام إلهي؟
كان العرب في الجاهلية يُنشئون أصناماً بهدف تجسيد تصوّراتهم البشرية عن الآلهة التي يعبدونها، وتوطين هذه التصوّرات بمادة لها وجود هو بمثابة توطين للمشاعر البشرية عن تلك التصوّرات. لا يختلف ذلك عمّا يفعله البعض اليوم بتفسير الزلازل والكوارث، بأنها انتقام إلهي من سكان المدن التي ضربها الزلزال لخروجهم عن طاعة الله، وذلك يتوافق مع الصورة التقليدية المتوارثة، أي تجسيد مشاعرهم البشرية تجاه فكرتهم عن الله من خلال الحدث.
الأسهل على المقلّد اليوم أن يفهم اسم الجلالة "المنتقم" من خلال تصوّره البشري عن فكرة الانتقام ومشاعره البشرية المصاحبة عن تلك الفكرة. فالانتقام صفة بشرية نعرفها جيداً، ولها تجسيد محسوس من خلال السلوك العدواني للإنسان المنتقم. أما "المنتقم" كاسم من أسماء الله الحسنى، فليس لنا أن نتصوّره أو أن نحسّه، فهي صفة خاصة بالله وليس لبشري أن يخبرها، إلا أننا بالعقل نستطيع تأويل صفات الله بأنها مغايرة لصفات البشر، حتى وإن استخدمنا ذات المفردة. فذلك للدلالة على صفة من صفات الله وقدرته على الانتقام إن أراد ذلك، وهذا مغاير لمفهوم الانتقام البشري، الذي هو غريزة أصيلة من غرائز البشر، حتى وإن لم يكن للإنسان القدرة على الانتقام.
في القرن الثاني الهجري، نشأ خلاف فكري بين المعتزلة والأشاعرة. اعتبرت المعتزلة حينها، أنّ العقل هو الأداة الأساسية للمعرفة، وأرجعوا كلّ المواضيع المطروحة أمامهم إلى العقل، وهم بذلك شجعوا خصومهم أيضاً على الاحتكام إلى سلطة العقل وتقديمه على النقل، فكان ذلك العصر عصر العقل الإسلامي بلا منازع. ومن بين الأفكار الجدلية التي أثارها المعتزلة وخصومهم الأساسيون حينها، أي الأشاعرة، مسألة ماهيّة "الله" وصفاته. وبدأ نقاش طويل بين الطرفين لم يحسم حتى يومنا هذا، ولا أعتقد بأنه سيحسم قريباً، وذلك في ظلّ غياب شبه تام لمنهج العقل وتفوّق منهج التكرار والنقل. كلا الفريقين (المعتزلة والأشاعرة)، وضع آنذاك، "الله" عزّ وجل فوق التصوّر البشري. ليس غرضي هنا أن أناقش رأي هذا الفريق أو ذاك في موضوع ذات "الله" وصفاته. فقد يتفق أحدنا مع رؤية هذا الفريق لمعرفة "الله" أو ذاك، ويختلف مع رأي الفريق الآخر. وقد يتفق مع الفريقين معاً، أو يختلف مع كليهما. ولكن مرادي هنا هو التأكيد أنّ المعتزلة والأشاعرة اتخذا من العقل حينها منهجاً أساسياً للوصول إلى استدلالاتهما وفهم تلك الاستدلالات من جهة، ولمجادلة رأي الخصم من جهة أخرى. ومن غير العقل لم يكن لهما ذلك. وكلّ من يقرأ أو يطّلع على هذا الاختلاف الفكري بين الفريقين، الذي يحمل في طياته آراء فلسفية عميقة باستدلالات منهجية عقلية حول ذات "الله" وصفاته، سيتأمل بعمق عظمة الخالق، وعجز التصوّر البشري عن محاكاة الذات الإلهية أو تجسيدها.
انكفأنا تماماً عن عصر العقل، واتجهنا صوب عصر النقل
اليوم، وبعد مئات السنين من عصر المعتزلة والأشاعرة، لا نستخدم ذات العقل لفهم واقعنا الحالي ومحاكمة الأحداث والكوارث التي تمرّ بنا، ولا نأخذ بالعبر والدروس، بل نكتفي بتكرار ما قاله السلف الناقل وتجنّب الأخذ برأي السلف العاقل، أي لقد انكفأنا تماماً عن عصر العقل، واتجهنا صوب عصر النقل. هل يُعقل أن يذهب البعض اليوم، ومنهم من هم أهل علم ديني وفقهي، إلى نسب الصفات البشرية لله عزّ وجل من خلال تفسير صفات الله بأحاسيس بشرية؟! هل يُعقل أن يتصرّف الله بمنطق المشاعر البشرية، التي يعاقب بمقتضاها الإنسان القوي، من هم أضعف منه إن خرجوا عن سلطته! هل يُعقل أن يخلق الله طفلاً ويعاقبه قبل أن يكلفه! هل يُعقل أن يتصرّف الله بمنطق العسكرية البشرية "الجائزة فردية والعقوبة جماعية"! هل يُعقل أن يقتص الله من الناس في الدنيا، وهو عزّ وجلّ من أرجأ الحساب إلى الآخرة؟!
إن ما بين عرب الجاهلية بالأمس والعرب المسلمون اليوم محطة لعصر العقل يخشى أن يسلكها الكثيرون. وهنا ليس لي إلا أن أوافق رأي المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه بأنّ "مأساة العرب أنّ عصورهم الوسطى جاءت بعد نهضتهم وتنويرهم عكس أوروبا. فعادة تكون العصور الوسطى أولاً، ثم تجيء النهضة والتنوير، ولكن عند العرب حصل العكس. ولهذا هم بأمسّ الحاجة لنهضة ثانية وتنوير جديد".