نعم سأقاطع الأخبار ومواقع الانقسام!
لم يكن قراراً اتخذته عن سابق ترصد، ولكن قناعة شكلتها أخبار تهتز من أهوالها الأبدان، قتل ودمار ولجوء بكل مكان، حروب لا غالب فيها ولا مغلوب، سيناريوهات مفتوحة بلا نهاية، موت مستمر وجدال عقيم بين رؤوس الخراب، كل منهم يدّعي أنه على الحق المبين، والآخر شيطان رجيم، كل منهم يدير ظهره للآخر يصمّ أذنه عن سَماعِه، يثرثرون هناك من بلاد بعيدة تتوفر فيها كل سبل الرفاهية عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. مسكين هذا الإنسان خائف جائع مقهور، لا سقف يأويه ولا ماء يرويه.
ماذا أشاهد بالأخبار؟ ذئاب تنتظر انتهاء حروب عبثية، لتتقاسم المغانم والثروات دون أن تلوث فمها بالدم.
ماذا أشاهد بالأخبار؟ القدس وحيدة تدافع عن صوت مآذنها ودقات أجراس كنائسها، عن تاريخها الذي بدأ مع أول خطوة للإنسان على هذه الأرض، لم تحنِ قامتها العربية يوما للغزاة، قاومت، بشموخ دون أن تزل لها قدم، وعلى الرغم من طعنات الذين تخلوا عنها وتركوها وحيدة في ميدان المعركة، وبرغم أن أبناءها عنها لَاهونَ، كل منهم يحمل بظهر الآخر سكينا، وهم لأخطاء بعضهم متربصون، سلطتان بلا سلطة، وحكومتان بلا حكم. تصر أن يصدح صوت الأذان ليصم أذن الطامعين والخائفين والمنافقين.
ماذا أشاهد بالأخبار؟ بلاد الياسمين ومهد الحضارة ومنارة العلم تختنق برائحة الدم سماؤها، تحتلها طائرات الموت، حاراتها القديمة تبكي شوقاً لأحباب كانوا يملؤون الأزِقَّة بقصصهم، كانت لغتهم عربية وملامحهم دمشقية تعرفهم تحفظ وقع أقدامهم، أما هؤلاء المستوطنون الجدد، فهم عنها غرباء لا ينتمون لها ولا صلة تربطهم بها، جاؤوا من كل مكان طامعين بنهب تاريخها وحضارتها وكل شيء.
بالأمس القريب كان العدو واحداً نعرف شكله، لغته، وأفكاره، أما الآن فنحارب عدواً يخرج من بين صفوفنا، من أجسادنا، من بطون أمهاتنا، من تراب أرضنا، هو منا ومسلط علينا
ماذا أشاهد بالأخبار؟ مسلمين يتبرأون من دينهم وكأنه عار يلاحقهم، أو تهمة يستحقون العقاب عليها، هذا غاضب من ازدياد المساجد في بلاده، وآخر يصرخ وجعا من صوت الآذان، ولو أن خجلا أصاب لسانه، لكان سيصرخ مطالباً بإسكاته نهائيا، قنوات تفتح أبوابها لمن يدّعون أنهم رجال دين وأنهم للإسلام وتعاليمه حافظون وفاهمون، والحقيقة أنهم يدسون السم في عقول المتفرجين، يسعون كما الأفاعي لاختراق كل الخطوط الحمراء، لم يسلم من عبثهم سنة ولا قرآن.
نعم سأقاطع مواقع الانفصام والانقسام.. فقراء بطونهم خاوية ومزابل المسلمين متخمة بما لذ وطابَ من فضلات الطعام، حفاة والأحذية في بلاد العرب تصنع من ذهب وألماس، عراة وخزائن بعض بلاد الإسلام متخمة بأغلى الماركات العالمية.
نعم سأقاطع مواقع الانفصام والانقسام وقلة الاحترام، منابر يعتليها التافهون المسوقون للنخاسة الجسدية والفكرية، قانونهم خالف تعرف.
في بلاد يموت فيها الإنسان لأتفه الأسباب، يموت قصفا على يد طيار يشعر بالملل، أو غرقا في يوم تثاقلت فيه الغيوم بالمطر، أو بخطأ طبي على يد طبيب مبتدئ، أو على رصيف مستشفى في بلاد ما زالت فيه جرائم الشرف تحمي القاتل من العقاب، ونحن غارقون في هذه الازدواجية.
تطل علينا زمرة من "مصاريع" السوشال ميديا، يحللون الحرام يدعون إلى الفحشاء والمنكر، والحجة حقوق الإنسان والحريات الشخصية!
أين أنتم يا هولاء، يا من تخرجون علينا من هواتفكم تحرضون وتبثون سمومكم في عقول أبنائنا، أين حق المرضى في أموالكم المهدرة؟ أين حق الجائعين في طعامكم الذي تعرضونه في صوركم ليل نهار؟! أين حق الحفاة من ماركات أحذيتكم؟ أين حق المشردين الهائمين في الشوارع المحرومين من سقف يحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء، أين حقهم في قبو بقصوركم؟!
عن أي حقوق تتحدثون أيها الفاسدون المفسدون؟
في عالم ما يسمى بالسوشال ميديا ضاعت فيه بوصلة الحق وتاهت بطريق الباطل، عالم ضبابي تتغير فيه وجوه الأعداء والأصدقاء، بالأمس القريب كان العدو واحدا نعرف شكله، لغته، وأفكاره، أما الآن فنحارب عدواً يخرج من بين صفوفنا، من أجسادنا، من بطون أمهاتنا، من تراب أرضنا، هو منا ومسلط علينا.
في زمن لم يعد الحلال بيِن ولا الحرام أيضا، في زمن أصبحت فيه الغاية تبرر الوسيلة، في زمن أصبح بين الباطل والحق شك، في زمن كهذا حفاظا على ما صمد من ثوابتي التي تربيت عليها.. سأهرب إلى زماني البعيد، إلى سمائي الزرقاء، سأختفي هناك من كل الأكاذيب.. أنا هناك سأحاول وبكل قوتي أن أصمد!