ملف| هل كان التخاذل العربي تجاه غزة متوقعاً؟ (38)
لا حاجة لأيّ متابع بأن يطيل النظر في مجريات الأحداث في فلسطين عامة، وفي غزّة على وجه الخصوص، ليقيّم حالة التفاعل العربي مع ما يجري في القطاع من فظائع ومجازر، ولن يخرج بعد هذه النظرة، طالت أم قصرت، إلا بنتيجة تُؤكد بأنّ حالة التردّي العربي وصلت إلى قاعٍ لا سابقة إليه، وأنّ التفاعل العربي مع قطاع غزّة عرّى ما بقي لدى هذه الأنظمة الرسمية التي تركت مئات آلاف الفلسطينيين يلاقون مصيراً مرعباً، من دون وجود أيّة مقوماتٍ للصمود أو المواجهة.
تردّي التفاعل العربي، والاكتفاء بالتصريحات ذات السقوف المتدنية جداً، كشفا عن تعامل هذه الأنظمة مع العدوان على غرار الكثير من القضايا السابقة، فلم تضع أيّة استراتيجية واضحة، لا لكفّ يد الاحتلال، ولا لإظهار حقيقته أمام العالم، فاكتفت هذه الأنظمة بالشجب والتنديد، ومن ثمّ بإطراء جنوب أفريقيا على ما قامت به من رفع للقضية أمام محكمة العدل الدولية، وكأنّ العدوان يطاول دولة أفريقية، أو في أميركا الجنوبية، من دون أن تكون هذه الدول شريكة فعلية بأي فعلٍ مباشر يوقف العدوان، أو يغيث الفلسطينيين بأي شكلٍ من الأشكال.
وتطرح هذه القضية جملةً من الأسئلة المركزية، تتعلّق بهذه الأنظمة ومستقبلها، وعن إمكانية استمرار تبعيتها للنظام الغربي وللولايات المتحدة الأميركية، وهل كانت الموجة المضادة للربيع العربي سببًا في الدفع نحو هذه الحالة؟ وأخيرًا هل كان التخاذل العربي تجاه قطاع غزّة متوّقعًا؟
أنظمة مقصوصة الأجنحة
لم تستطع الأنظمة العربية طيلة العقود الماضية، أن تقدّم أيّة إجابات واضحة عن موقعها في الإقليم، وما كان منها في أفضل الأحوال إلا أنّ تُراوح في موقعها ما بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وأخيرًا التبعية شبه الكاملة للولايات المتحدة الأميركية، وبعيداً عن حالة الفشل الداخلي في الكثير من دولنا العربية، وعدم قدرة غالبية هذه الدول على بناء نموذج ريادي من الأمن الغذائي أو المائي، وإيجاد موقع متميّز في الاقتصاد العالمي.
وإضافةً إلى ما سبق لم تستطع الأنظمة العربية بناء استراتيجية دفاعية وطنية، تقوم على الأخطار المحدقة بها، وتدرس الخريطة السياسيّة في الإقليم والعالم، وتبني تحالفات حقيقية مع القوى الكبرى لا أن تكون مجرّد تابعة لها، فقد أظهرت السنوات، وخاصة على أثر حربي الخليج الأولى والثانية، سيطرة شبه مطلقة للسياسة الأميركيّة، وتماهيا واضحا مع ما تمليه الإرادة الأميركية في معظم الملفات الإقليمية، وبقيت قضية التطبيع مع دولة الاحتلال عقبة كأداء، نتيجة بقاء حالة العداء ما بين الشعوب العربية ودولة الاحتلال.
لم تقم الدول العربية أو الإسلامية بأي فعلٍ حقيقي لوقف العدوان الإسرائيلي على غزّة، بينما لدى الكثير من هذه الدول تاريخ طويل من قمع الشعوب وخنق الحريات
وفي سياق هذه القضية، تشير مفارقة بالغة الوضوح، إلى أنّ جزءًا من تبرير موجة التطبيع الأخيرة، كان من بوابة خدمة فلسطين ووقف تغوّل الاحتلال، بينما أظهرت الأحداث الجارية في غزّة عدم قدرة أيّ من الدول، مطبّعة كانت أم غير مطبّعة، على إيقاف المجازر الوحشية التي تحدث في القطاع، أو الخروج بموقف على قدر المخاطر المحدقة، وهو ما يُعيد بوضوح قضية الانضباط بالسقوف الأميركية، فحالة الدعم الأميركي لدولة الاحتلال سياسيًا وعسكريًا، رسمت سقفًا هزيلًا للدور العربي، والذي بدوره يتساوق مع الأمر الواقع الذي تريده وتسعى إليه دولة الاحتلال، وكان أكثر ما يمكن أن تقدّمه بعض الدول العربية، أن تلعب دور الوساطة ما بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية في غزّة.
ولم تكن حالة الأجنحة المهيضة العربية أن تقبل بأي حالة من الأحوال وجود طليعة تواجه الاحتلال ومن خلفه الإرادة الأميركية، إذ أكدت معركة طوفان الأقصى، ومواجهة المقاومة الفلسطينية للتوغل البري ببسالة، وبأبسط الأسلحة المحلية، حالة الانهزام العربي، وهو ما دفع العديد من الجهات العربية لشيطنة المقاومة الفلسطينية، ووصفها بالإرهاب، في العلن حينًا من خلال وصف ما جرى في السابع من أكتوبر بأنّه عمل إرهابي، أو في الفضاءات الافتراضية من خلال محاولة تجريم المقاومة وقلب الحقائق، ونشر الإشاعات عن قادة المقاومة وغيرها من أساليب.
أُسد على الشعوب، حمامة على الاحتلال
مع اقتراب العدوان على غزّة من الدخول في شهره السادس، لم تقم الدول العربية أو الإسلامية (من حيث الرابطة الدينية مع الفلسطينيين في غزّة)، بأي فعلٍ حقيقي لوقف العدوان، بينما لدى الكثير من هذه الدول تاريخ طويل من قمع الشعوب، وخنق الحريات، واستخدام مختلف أدوات التنكيل.
ويُشير العديد من المتابعين إلى أنّ حالة الركون الشعبي العربي مع ما يجري في فلسطين، على الرغم من استمرار حالة العداء للاحتلال، مردّها عقود من قمع الشعوب، وحرمانها من أيّ مؤسسات مدنية تمثل هذه الفئات المهمّشة، وتسهم في إدارة الحراك الشعبي لدعم الفلسطينيين وإسنادهم، وكانت آخر الضربات التي تلقتها الشعوب العربية، الانقلاب على نتائج الربيع العربي، وإعادة إنتاج الأنظمة السابقة، وما يُسمّى الدولة العميقة، بأسماء جديدة، ولكن ضمن المنظومة نفسها.
عادت السجون العربية لتكون مكانًا لآلاف النخب الفكرية والسياسية الفاعلة، وتُركت الساحات المختلفة لأذرع الأنظمة الفاسدة لتملأها بما تريد ومن تُريد
وقد سحقت هذه الموجة التي انقلبت على الربيع العربي ما بقي من قدرة المجتمعات العربية على المواجهة والتحرّك، وقد سجنت الأنظمة هذه جلّ الفاعلين ومن يستطيع قيادة الشعوب، وعادت السجون العربية لتكون مكانًا لآلاف النخب الفكرية والسياسية الفاعلة، وتركت الساحات المختلفة لأذرع هذه الأنظمة لتملأها بما تريد ومن تُريد، وفي ارتباطٍ مع التبعية المطلقة للقوى الغربية، وربّما يُمكننا أن نفهم التأييد المباشر للقوى الغربية لحالة "التغلب" والقضاء على الربيع، في سياق أنّ القوى المهيمنة الحالية ستوّفر على الغرب الكثير من الجهود والمخطّطات.
التخلّي عن غزّة وخنق آخر أصوات المواجهة
أخيرًا، لا شك بأنّ إفشال الربيع العربي، ومحاولة القضاء على نتائجه والعودة لكلّ ما كانت تقوم به "الدولة العميقة"، كان سببًا مركزيًا لهذا الفشل العربي تجاه ما يجري في قطاع غزّة، وقد أشارت العديد من التقارير الغربية إلى أنّ عددًا من الدول العربية تدعم الاحتلال، وتشدّ على يديّ نتنياهو لكي يُكمل الحرب، وأن يستمر حتى يقضي على المقاومة. وعلى الرغم من حالة الاستغراب الكبيرة التي تابعناها بعد انتشار مثل هذه التقارير، إلا أنّني أجدها طبيعية جدًا من قبل هذه الأنظمة، والتي تجد فيما قامت به المقاومة في السابع من أكتوبر، أو صمودها الأسطوري في مواجهة الاحتلال، نموذجًا يُمكن للشعوب العربية أن تتخذها نموذجًا، وأنّ المقاومة بإمكاناتها البسيطة استطاعت إرباك الاحتلال، فكيف بمئات الآلاف من الشعوب العربية، ولذلك أيّدت الأنظمة العربية هذا الاحتلال، سرًا وعلانية، وأمدّته بالدعم والسلاح والبضائع، لكي يمضي قُدمًا في القضاء على آخر صوتٍ ينادي بالمواجهة، ما يجعل نجاح الاحتلال، نجاحًا لهذه الأنظمة، وللمحور الداعم لرئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، والعكس صحيح.
وبكلّ تأكيد هناك ملايين العرب ممن ينزفون في اليوم ألف مرّة، مما يرونه ويتابعونه من مجريات العدوان، كما أنّ محاولات الأنظمة العربية خنق كلّ محاولة تضامن لن تقف عند العدوان على القطاع، إذ تختزن الذهنية العربية مشاهد الإجرام والقتل والتنكيل، ومن ثمّ تنفجر في لحظة ستكون أقسى بكثير مما جرى في تونس مع محمد البوعزيزي، وستكون لحظة الانفجار القادمة أكثر رعبًا لهذه الأنظمة، إذ اختزنت ذاكرة هذا الجيل فظائع مرعبة، في كل قطرٍ من الأقطار العربية وفي فلسطين، ما يفتح الباب أمام المزيد من الأسئلة، عن توقيت الانفجار القادم وماهيته، خاصة أنّ الحرب الحالية ستمتد تداعياتها إلى خارج فلسطين، وهو ما نتابعه في حالة التضامن العالمية مع قضية فلسطين.
فاللحظات الفارقة في التاريخ الإنساني، تفتح الباب أمام مئات الاحتمالات، والمعروف منها على أقل تقدير، أن التغيير قادمٌ لا محالة.