أمّي التي رأت قلبي قبل أن أرى عينيها

13 يونيو 2024
+ الخط -

نتابعُ ما يجري في قطاع غزّة من حربٍ مستعرة، وجرائم فظيعة، وأحوال بالغة الصعوبة. وممّا أطيل التفكّر فيه خلال هذه المأساة المستمرة، إن من خلال المشاهد التي نراها في وسائل التواصل، أو على شاشاتِ القنوات، ما تخوضه النساء عامة، والأمّهات على وجه الخصوص، من مصاعب استثنائية، في كلّ شأنٍ من شؤون حياتهن، وهنّ بلا ريب يخضن لججًا وأهوالًا، وفوق كلّ ذلك يتجرّعن مراراتِ الفقد بمختلف أشكالها وصورها، وهذا ما أعادني إلى أمّي، لما تذرفه لأولادها من عمرٍ وجهدٍ وتضحية. فمن أمّهات غزة إلى أمّهات كلّ واحدٍ منّا، ثمّة قصص كثيرة ومشاعر غزيرة، ونموذجٌ دائم الوجود والحضور والأثر، وإنّي في هذا المقام، أودّ أن أحدّثكم عن أمّي، تلك المرأة المُصابرة التي رأت قلبي، قبل أن أرى عينيها.

لا يُمكن لمرءٍ أن يعرف ما تُخبئه الأيّام له، وما كنتُ أدري أنّه سيأتي عليّ وقت أغيب عن أمّي كلّ تلك المدّة، لظروفٍ كثيرةٍ لا مجال لذكرها هنا. وكنت قد كتبت سابقًا عن أمّي، ولكنّني أعود وأكتب اليوم مجدّدًا، لأبثّ شيئًا خفيًّا في صدري، وأبثّ بعض لواعجي، لا لأحملها لمن سيقرأ ما أكتب، بل لتكونَ رسولًا إلى والدتي، وتسجيلًا لبعض محطّات الذاكرة، وما عشته في كنفها من دفءٍ وودٍّ وحبٍّ، ومن ثم أجتهد في نظمها، في إطارٍ واضح من الكلمات، أوليس من البرّ أن أكتب عن أمي؟

‏أوصى بك اللهُ ما أوصت بك الصُّحفُ/ والشعرُ يدنو بخوفٍ ثم ينصرفُ

‏ما قلتُ والله يا أمي بقافيةٍ/  إلا وكان مقامًا فوقَ ما أصفُ

سأكتب لك وعنك يا أمّي، وإن لم أكتبك، فلماذا ولمن أكتب إذًا؟ لن أكتبك يا أمّي نثرًا، فعطاؤك أعظم من الحدّ، وأوسع من أن تُحيط به معاجم ومجامع، وإنّي عاجزٌ عن تفسير كنه جوهرك النقي. لن أكتبك شعرًا يا أمّي، فهل يستوعب الشعر حبّ ابنٍ كَلُفَ بأمه، أو هل تستطيع قصائد الدنيا احتواء روحٍ هي منك ولك؟ لا أظن ذلك، ولكنّني سأحاول.

على الرغم من مرور السنوات وتتابعها، فما زلتُ ذلك الشاب اليافع الذي يعشق الجلوس قربك يا أمّي

سأكتبُ عنك يا أمي، سأكتبك قبساتٍ وصورًا، سأكتب طيفًا منك في خفايا النبض، سأكتب ومضات تلمع وتخبو في مسيرةِ الأيّام، لن أكتب كلّ شيءٍ، ولا أستطيع أن أحيط بكلّ شيءٍ، فكيف بالساقية الصغيرة أن تُحيط بالبحر العظيم الممتد. ولكنّي أكتبُ عنك يا كلّ القلب، لأحيدَ شحذ قلمي، ولأسطّر رائعة بين روائع الأولين، لا لجزالةٍ أو فصاحةٍ في كلماتي، أو لبلاغةٍ لا سبق لي بها، بل لأنّها عنك يا أمّاه. سأكتب لأزيّن كلماتي بذكرك، وأرسم بحروفي المبعثرة ابتساماتك العذبة كأفقٍ غير محدود فيه من السحر ما فيه، لأستلّ بعض بريق عينيك وطيبتها وأُودعها في طيّاتِ صفحاتي، علّ كلماتي وعباراتي الأخرى تحذو حذوها وتنال بعض رقيها وجذالة معانيها. أكتب عنك يا أمّاه لأرفعَ هامات خواطري بوصفك والحديث عنك، لتستحيلَ عباراتي نصوصًا عصيّة على النسيان، تأبى أن تندثر كغيرها، كما أنّها لا تتكرّر كغيرها أيضًا، فكيف وقد ارتبطت بامرأةٍ لا مثيل لها في الوجود.

أمي يا سنبلة العطاء التي لا تمل عطاءً، ولا تذبل تجددًّا. أمي يا شمس وجداني ورحلة ذاكرتي نحو السديم. يا أجمل اسمٍ في هذا الكون، وكلّ الكون قبسٌ من أمّي.

تقودني ذاكرتي يا "ست الكل" لذلك الباب الذي أدقه تعبًا مُتبرمًا، ضجرًا، من همومِ يوم مدرسيّ تَطاول أمده، أو متعبًا من امتحانٍ أنهك العقل وأضنى التفكير، أو من يومِ عملٍ شاق في تلقين الصغار أحرف تاريخهم الأولى... أعود إليك يا أمّي، لأجدَ دفء عطفك يلفّ دنيا خمولي بعبقِ حنانك الآسر. ليديك الملائكية التي تمسح عرق أيامي بالأولى، وتُبدّد بالثانية نزق أتراحي، وهي ترتفع للسنا مع دعواتك الصادقة، وتلك الترانيم العجيبة من الرضا والحُب، كزخاتٍ مطرٍ ربيعيّ، تروي الإنسان وتحيي اليباس. كم أحبّ دعواتك الرحمانيّة، ولا صدق في هذه الدنيا مثل دعوات أمّي.

أمي يا شمس وجداني ورحلة ذاكرتي نحو السديم. يا أجمل اسمٍ في هذا الكون، وكلّ الكون قبسٌ من أمّي

أعودُ إلى بابك يا أمّاه، وأدقه بكفيّ متثاقلًا برمًا... وكلما وجدت الظلام يداهم نفسي الذابلة، أهرع إليك في استغراب، ولا أدري هل ألوذ إليك مختارًا طائعًا، أم مُجبرًا مسيّرًا بحنينِ الولد، لا يهمني ذلك طالما أجد عندك الملاذ والموئل...

آهٍ كم كبرتُ يا أمّي، وحريق الشيب قد أشعل نيرانه في شعري، وبدأت تتحوّل إلى الأبيض رويدًا رويدًا. هي السنوات يا أمّي تلعب معنا لعبةَ العمر مرّةً أخرى، ومع الغياب يصبح هذا التحوّل نموذجًا لبعدٍ آخر، أراه في شعري، وفي خطوطِ وجهك الجميل. وعلى الرغم من مرور السنوات وتتابعها، فما زلتُ ذلك الشاب اليافع الذي يعشق الجلوس قربك، نتسامرُ في أيّ شيء، وأوشوشك بأحلامي وآمالي، تستمعين بإنصاتٍ وحبّ، والحديث معك له طعمٌ خاص، هو برّ وحاجة في الوقتِ نفسه.

أرسلت لك ذات مرّة رسالة بأنّك جميلة جدًا، فكان ردّك متواضعًا كما أنت دائمًا، ولكن جمالك ليس بالضرورة جمال الشكل (مع وجوده وروعته)، ولكنّه جمال القلب والروح، وأحسب بأنّ لديك قلبًا نضاحًا بالحب، يفيض عطاءً بغير كللٍ ولا ملل، لكلّ فردٍ من الأسرة نصيب من الاهتمام، وقبسٌ من الدعاء، وألحقت بنا الأحفاد ولهم في كلّ ما مضى نصيبٌ وزيادة.

أمّي وتضيع الصور من يدي، وكلّما أبتعدُ عنها أراها ضبابيّةً، مشوشةً. فتضيع مني تفاصيلها، فلم أعد أذكر صورًا كثيرة من الطفولة، ولكنّي ما زلت أشعر بها، فهي قويّة التأثير، عظيمة الأثر. خيالات من هنا وهناك، أشعرُ بلمسةِ الحنو والعطف، بدفء الكلمة والحرف، أحسّ بيدك تُلامس جبيني عندما تتراقص الحمى في عروقي، ويمرّ طيفك بجانبي عندما يخنقني الربو في ليالي الربيع والصيف، إلى دوريات الاطمئنان على الأغطية في الشتاء البارد، فصباحاتك الجميلة وأنت تتفقدين ثياب هذا، وزوادة ذاك، وحقيبة ثالث...  إلى نزعك الكتاب من بين يدي بعد نومي من غير ما أشعر، فمسبحتك عاجية اللون، وهي تتهادى بين أصابعك، تقلبينها في خشوعٍ واطمئنان، لا تكلّف فيهما، وأنت في نورانية الذكر والابتهال، لانتظارك حتى تفرغي من صلاتك، وثوبك الأبيض يزيدك ألقًا، ربّما تكون الفكرة تافهة، ولكن انتظارك وأنت في هذا الثوب القشيب من روائع هذه الدنيا. آه من هذه الصور يا أمي، لها وهج لا يُملّ منه.

هناك كلمات يا غاليتي، تعلق في الذهن، وتنعكس انعكاسًا فطريًّا لا مثيل له، وكم أثّرت بنفسي هذه العبارة التي أرسلتها لي، ردّدتها كثيرًا جدًّا، وقلبّت أوجهها، وهي من أسمى وأعظم ما قرأت، تكتب كلماتك بماء الذهب، وتختصر الأمومة في كليمة: "لقد رأيت قلبي، قبل أن تراك عيناي".

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".