أن تتابع حربين مغترباً

10 أكتوبر 2024
+ الخط -

ها هو العدوان على غزّة يدخل عامه الثاني، عامٌ كامل من المواجهة والنزف. أحداثٌ مُقلقة متتالية، ومجازر مروّعة، وفي خضمّها آمالٌ وآلامٌ، وأفكار وأتراح، واختلاطٌ غريب من المشاعر، ولم يعد المرء يستطيع متابعة كلّ شيءٍ، إذ تتدحرج الأحداث بشكلٍ سريعٍ جدًا، وندخل في شرنقةٍ جديدة من التيه، مع تصاعد العدوان على لبنان، وانسداد الأفق عن أيّ حلولٍ مُمكنة في الجبهتين، ولا تزال كرة اللهب تتدحرج من دون توقف، والحرائق لم تعدْ بعيدة كما السابق، فقد وصلت إلى من نُحبّ، وما نُحبّ، وفي الحالين، ومع الحربين، يظلّ القلب مُشتتًا مُبعثرًا، ولي في ذلك نفثة ملتاعٍ مكلوم، عن الذي يتابع حربين مغتربًا.

أن تتابع كلَّ تلك الويلات وأنت مُطمئن بعيد، شعورٌ مختلط وأفكار مضطرمة، ربّما هي "عقدة الناجي" كما تقول لي زوجتي، فكيف يكون المرء في مكانٍ آمن، وأهله وخلّانه في أتون معركةٍ مستعرة؟ تظلّ الطمأنات وبُعد العدوان عنهم (حتى اللحظة) مسكّنات لحظيّة، ولكن في الأمر ما لا يُمكن تجاوزه أو التعايش معه، وإنّي هنا أشارك كلَّ صديقٍ من أهلنا الأكارم من قطاع غزّة جزءًا يسيرًا ممّا عانوه، وخصوصاً مشاعر الأصدقاء الغزيين في خارج فلسطين، وقد كنت أحسب نفسي أستشعر بما يمرون به، ولكن مع دخول العدوان إلى لبنان، أصبح التماثل أكثر حضورًا، واللواعج قواسم لكلِّ خاطرٍ وفكر.

"لا يؤلم الجرح إلا من به ألم"، كثيرًا ما سمعت هذه العبارة، وردّدتها وقد كانت تمثّل في حقيقه الأمر مشاعر عميقة في قلبي، إذ تتصل بكثيرٍ من القضايا، وما نمرّ به في حياتنا العامة والاجتماعية، وإنّي في هذا المقام أحسب أنّ لها وقعًا جدّ مختلف، فمنذ بداية العدوان على قطاع غزّة، منذ عام كامل، لها وقعٌ آخر حقًا، فمهما تكن مشاعر الإنسان حاضرة، ونفسه قريبة، فلن يُحسّ بحقيقة ما يُعانيه الآخر، ولن يصل إلى مشاعر من ارتقى من أهله العشرات، وفقد كلّ عزيزٍ وغالٍ، وتحوّل من العيش الهانئ السعيد، في بيته وبين أهله، إلى حياةِ الضنك في الخيم، وفوق كلّ ذلك يتجرّع مراراتِ الحصول على أقلِّ مقوّمات الحياة، وإن استطاع تأمين أقلّ القليل، فهو من القلّة المرفّهة في محرقة التغوّل، وذلك السجن الضخم، هي لعمري معاناة مركّبة، لا تتوقف منذ عامٍ كامل، بل تتصاعد يومًا بعد آخر، وتزدادُ ساعة بعد أخرى، والوهن يتسرّب الى القلب رويدًا رويدًا، يتسلّل في عتمةِ الليل المطبق، تصيب كلّ تفكيرٍ بالشلل، ليس قنوطًا معاذ الله، ولكنّه ذلك الضعف الإنساني الذي يميّزنا عن غيرنا من الكائنات، ذلك الروع الذي يختبئ بين الأنفاس أو في تضاعيف النفس البشرية، وهذا كلّه من المشاهدة فقط، ونحن أبعد ما نكون عن كلّ ذلك.

مهما تكن مشاعر الإنسان حاضرة ونفسه قريبة، لن يُحسّ بحقيقة ما يُعانيه الآخر

لقد كان كلّ ما سبق جزءًا من انطباعاتي حتى بداية العدوان على لبنان، لم أتراجع عنها، بل ترسّخت في قلبي أكثر وأكثر، فصاحب الألم لا يشعر به أحد، فلقد اهتزّت المشاعر مرّة جديدة، ولا مريم أسفل الجذع تنتظر الرطب جنيًا، ولا هي تحمل المسيح بين آلام المخاض. لم تتبدّل المشاعر، ولكنّني أصبحت أستشعر أكثر فأكثر ما كان يعانيه أهلنا في القطاع، فمنذ بداية القصف الوحشي على مناطق متعدّدة من لبنان، ومخاوف توسّع الحرب التي أراد الاحتلال أن نرى في ما جرى في غزّة نموذجًا سيتكّرر، بإجرامه ومجازره وجبروته وصلفه وعدوانه، سيتكّرر في مناطق أخرى ومع أبرياء آخرين، عن المربّعات التي لا يتوقف قصفها، وعن التهجير الذي يتوسّع كلَّ يوم، من الليطاني إلى الأولي، وربّما إلى حدود بيروت -لا قدر الله- عمّا قريب.

إنّني أرى الأحداث بعينين، عين المحلّل الذي سيكتب عنها ويوثّقها، ويخرج على الإعلام ليقول كلامًا أنيقًا مرتبًا، يحلّل فيه خطاب ذاك، وكلام هذا، ويرصف الجمل بسرعة ليستفيد من الوقت المتاح له. أمّا العين الثانية، فهي عين المشفق الغريب البعيد المكلوم، الذي ذرف دموعًا سَحْساحة طوال عامٍ في غزّة، وسيذرف مثلها مرّة جديدة، يستشعر ما يُمكن أن يحدث، فتزدحم في رأسه الأسئلة، ماذا سيجري؟ وما المآلات؟ وأين؟ ومتى؟ ... أسئلة كثيرة جدًا لا جواب لها عنده، عدا التوق إلى انفراجةٍ قريبة وأن يحمي عشرات الأحباب والأصدقاء وأهليهم المبثوثين في طول البلاد وعرضها.

من شبّ في حدائقِ الموت لن يتعب كثيرًا في البحث عنها، فقد حُفرت في الذهنِ والوجدان

 

لم تعد الحروب أخبارًا بعيدة نلتقطها من هنا وهناك، وننظر إليها كجنرالٍ كبير في السن يحرّك الأحصنة الخشبيّة القابعة على الخريطة أمامه بعصاه الطويلة، ويُصدر أوامره، ثم يذهب ليحتسي الشاي وهو سعيد بالانتصار المتخيّل في ذهنه، بل نتابع جبال النار التي تأكل الأكباد، وتهلك البلاد والعباد، وإنّي من بلادٍ قد أُترعت بهذه الصور، لا حاجة لاستحضارها، فمن شبّ في حدائقِ الموت لن يتعب كثيرًا في البحث عنها، فقد حُفرت في الذهنِ والوجدان.

لا أكتب ذلك قنوطًا، أو خوفًا، أو وقوفًا في صفِّ العدو المجرم، أو تقليلًا من شأن أيّ مقاومةٍ وجهد أيّ مقاومٍ، بل هي خواطر مغتربٍ بعيد يراقب الحرب، ويخشى أن يمتدّ ذلك الأتون أكثر، أن تجتمع المرارات علينا أعوامًا أخرى، أهدي قلبي لكلِّ المُمسكين على الزناد، ولكلِّ الصامدين من غزّة إلى لبنان، وأقول كما قلنا لهم قديمًا وكما سنقول دومًا: "أفديكم".

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".