ملف| مآلات الحق بمقاومة الاحتلال بعد الحرب على غزة (10)
أثارت عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها "كتائب عز الدين القسّام"، الجناح العسكري لحركة "حماس"، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، جدلًا واسعًا في العالم، ولا سيما في العالم العربي. وقد اتسم هذا النقاش غالبًا بالطابع "الأخلاقوي"ـ السياسي، وتمحور بشكل أساسي حول إدانة أو عدم إدانة العملية والتنظيم المسلح الذي قام بها، مع ما يرافق ذلك من نظرة مانوية للأمور وغرق في خطاب الخير والشر المتأصل في نظرية صراع الحضارات. وغالبًا ما ترافق ذلك مع محاولات لوصم المقاومة المسلحة على أنّها إرهاب، وحركات التحرّر الوطني على أنّها تنظيمات إرهابية.
قد تمّ انتقاد "حماس" على انتهاكاتها للقانون الدولي الإنساني التي اتهمت بها (ولو بشكل مضخّم) أثناء "عملية الطوفان". كما تمّ انتقاد "عبثية" استراتيجيتها السياسية المرافقة لكفاحها المسلح، إذ يعتبر كثيرون أن لا قدرة فعلية لديها لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأنّ استراتيجية الحركة تنحصر بمحاولة إحباط ديناميكية التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، وأنّها تسهّل بسياستها هذه استغلال القضية الفلسطينية من قبل حلفائها الإقليميين، لا سيما إيران. بالإضافة إلى ذلك، تمّ انتقاد "حماس" بناء على طبيعة الأيديولوجيا التي تنادي بها (الإسلام السياسي). وفي كلّ الحالات، يحاول المنتقدون الخلاص، بناءً على معايير سياسية ـ أخلاقوية في أكثر الأحيان، إلى تجريد "حماس" من صفة المقاومة ووصمها بالإرهاب.
أما الجانب القانوني، الذي من شأنه إخراج النقاش من المانوية والتسطيح الفكري المرافق لها، فيتم إغفاله في أكثر الأحيان. لا بدّ من إعادة تركيز النقاش حول القانون الدولي، لأنّ من شأن ذلك أن يعيد النقاش إلى موضوعية، غالبا ما افتقدها.
ضرورة التمييز بين القانون في الحرب وقانون الحرب
يعتمد كثيرون في الغرب على انتهاك "كتائب القسّام" للقانون الدولي الإنساني خلال عملية السابع من أكتوبر، من أجل نكران حق الشعب الفلسطيني، ومن ضمنه "حماس"، في المقاومة. وفي موقفهم هذا خلط للحابل بالنابل القانوني.
يميّز القانون الدولي (وهو تمييز حديث نسبيا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية) بين "قانون الحرب" (jus ad bellum) و"القانون في الحرب" (jus in bello)، ولا بدّ من الاعتماد على هذا التمييز البنيوي بين المجموعتين من القواعد القانونية في تقييم عملية السابع من أكتوبر، ولمحاولة استشراف مآلات مقاومة الاحتلال كمفهوم قانوني بعد الحرب على غزّة.
القانون الدولي الإنساني، أو القانون في الحرب ( jus in bello)، هو القانون الذي يحكم طريقة سير الحرب. ويتميّز القانون الدولي الإنساني بطابع إنساني محض. فهو يسعى إلى الحدّ من المعاناة الناجمة عن الحرب، عن طريق توفير أكبر قدر من الحماية والمساعدة للضحايا. لذلك فهو يعالج واقع النزاع المسلح، ويقتصر على تنظيم جوانب النزاع ذات الأهمية الإنسانية، بغضّ النظر عن المسائل المتعلّقة بمبرّرات أو أسباب الحرب، أو منع نشوبها (أسباب اللجوء إلى القوة أو مشروعيته)، وهي أسباب ومبرّرات مشمولة بقانون آخر، هو قانون الحرب (jus ad bellum).
يتجاهل كثيرون في الغرب بديهيات القانون الدولي، وذلك بهدف نزع صفة الحركة المقاومة عن حماس وشيطتنتها على أنّها حركة إرهابية
تنقسم أحكام القانون الدولي الإنساني (القانون في الحرب) إلى ما يعرف بقانون لاهاي (أساليب ووسائل الحرب) وقانون جنيف (حماية ضحايا الحرب)، وهي تسري على الأطراف المتحاربة بغضّ النظر عن أسباب النزاع ومدى عدالة القضية التي يدافع عنها هذا الطرف أو ذاك.
الانتهاكات التي تُتهم "كتائب القسام" بارتكابها في السابع من أكتوبر تتعلق بقواعد القانون الدولي الإنساني (القانون في الحرب). وكما هو من غير الجائز قانونيًا التذرع بمشروعية استخدام القوة (ضد قوة قائمة باحتلال عسكري) في ما يتعلق بقانون الحرب، لتبرير انتهاكات القانون الدولي الإنساني ("القانون في الحرب") المرتكبة أثناء النزاع المسلح الناتج عن استخدام القوة هذا، فبالمقابل، من غير الجائز قانونيًا أيضا التذرع بانتهاك القانون الدولي الإنساني للدلالة، بمفعول رجعي، على عدم مشروعية أساسية مزعومة لاستخدام القوة.
هذا من بديهيات القانون الدولي التي يتجاهلها كثيرون في الغرب، وذلك بهدف نزع صفة الحركة المقاومة عن "حماس" وشيطتنتها على أنّها حركة إرهابية. إذا كان القانون الدولي الإنساني (خصوصا اتفاقية جنيف الثالثة والبروتوكول الإضافي الأول) يحدّد الشروط التي يجب أن تلتزم بها حركات المقاومة المسلحة لمنح أعضائها صفة المقاتل التي تخوّلهم التمتّع بحقوق معينة، ولا سيما تلك التي يعطيها القانون الدولي الإنساني لأسرى الحرب في حال الاعتقال، فمسألة مشروعية استخدام القوة مسألة مختلفة، يحدّدها قانون الحرب، وليس القانون الدولي الإنساني (القانون في الحرب).
مشروعية استخدام القوة ضد الاحتلال بنظر قانون الحرب
يسعى قانون الحرب (jus ad bellum) أو قانون منع الحرب (jus contra bellum) إلى تقييد اللجوء إلى القوة في ما بين الدول، فحظر استخدام القوة مبدأ أساسي في القانون الدولي، أكد عليه ميثاق بريان ـ كيلوغ (27 آب/أغسطس 1928)، وكرّسه ميثاق الأمم المتحدة في مادته الثانية (الفقرة الرابعة).
ولكن يلحظ قانون الحرب استثناءات ثلاثة لهذا المبدأ العام، وهي حالة الدفاع عن النفس، أو عقب قرار يتخذه مجلس الأمن للأمم المتحدة بموجب الفصل السابع من الميثاق لوقف التهديد للسلم والأمن العالميين (المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة)، أو (وهي الحالة التي تهمنا) في حالة "المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير، كما كرّسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقاً لميثاق الأمم المتحدة" (نص الفقرة الرابعة من المادة 1 من الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف، 1977).
وقد جاء هذا النص في البروتوكول الأول الإضافي ليقونن سلسلة من قرارات سابقة للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أكدت الجمعية فيها مرارًا، بناء على قرارها الأساسي رقم 1514 (الدورة 15) بتاريخ 14 كانون الأول/ديسمبر 1960، على شرعية نضال الشعوب من أجل التحرّر من الاستعمار والهيمنة الأجنبية بكلّ الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلّح (قرار3246 (الدورة 29)، 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1974؛ قرار 3382 (الدورة 30)، 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 1975؛ قرار 31/34 بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1976؛ قرار 32/14 بتاريخ 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1977).
توصيف "إرهابي" غير موحود في القانون الدولي، وذلك لعدم توّصل دول العالم إلى اتفاق حول تعريف الإرهاب
وعليه، فإنّ وجود حالة احتلال عسكري ("من حيث الموضوع")، أو حالة ترقى لحالة احتلال عسكري (كوضع قطاع غزّة، ولا سيما ما قبل عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل)، سبب ضروري وكاف بنفس الوقت، بنظر القانون الدولي، لاستخدام القوة ضد الاحتلال من قبل حركات المقاومة.
ولذلك، فإنّ القدرة الحقيقية على تحرير الأراضي المحتلة (وهذا موجب وسيلة، وليس موجب نتيجة)، أو مزايا الاستراتيجية السياسية المصاحبة لها، لا يمكن أن تشكل، بموجب القانون الدولي، معايير لمشروعية أو عدم مشروعية الكفاح المسلح من أجل التحرّر الوطني في نظر القانون الدولي.
وللسبب نفسه، لا يمكن تقييم هذا الحق في استخدام القوة لمقاومة الاحتلال على أساس طبيعة الأيديولوجيا للتنظيم الذي يمارسه، ولا سيما أنّ توصيف "إرهابي" غير موجود في القانون الدولي، وذلك لعدم توّصل دول العالم إلى اتفاق حول تعريف الإرهاب، ومردّ ذلك تحديدًا إلى الرفض المستمر من قبل كثير من دول الجنوب المشارِكة في اللجنة السادسة المولجة بالشؤون القانونية ضمن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وخصوصًا دول منظمة التعاون الإسلامي، ولا سيما المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، اعتبار أن مقاومة الاحتلال إرهاب.
من الملاحظ أنّ ازدواجية معايير الغرب فادحة في هذا الخصوص، إذ تعتبر أكثرية دوله أنّ استخدام القوة من قبل كتيبة آزوف في أوكرانيا ضد الاحتلال الروسي ليس إرهابًا، بل هو عمل يقع تحت خانة المقاومة المشروعة للاحتلال، وذلك بغضّ النظر عن أنّ هذا التنظيم المسلح الأوكراني يعتنق إيديولوجيا يمينية متطرفة تقترب كثيرًا من النازية. أمّا إذا كانت حركة المقاومة تعتنق الفكر الإسلامي، فهي تلقائيًا، وبشكل لا يخلو من الكثير من التنميط الثقافي، بنظر الغرب، حركة إرهابية في أغلب الأحيان، إن لم تكن كلّها.
بعد الحرب على غزّة، سيحاول الغرب القفز فوق كلّ المكتسبات القانونية التي أعطتها قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة المذكورة آنفا لحركات المقاومة وللحق في مقاومة الاحتلال، والعودة إلى أدبياته السابقة في بداية فترة استقلال بلدان العالم الثالث عن الاستعمار، التي كانت تصم حركات التحرّر الوطني بالإرهاب. وسبيله إلى ذلك التذرع بمختلف الذرائع المذكورة آنفا، وعلى رأسها (كما فعلت أميركا في بداية القرن في حربها على الإرهاب) بالطبيعة الإسلامية لأيديولوجيا بعض التنظيمات التي تقاوم الاحتلال، وذلك من أجل نزع توصيف "حركة مقاومة" عنها، تمهيدًا للغرق عن قصدٍ، وبطريقة غير قانونية، في فراغ قانوني (منطقة رمادية بسبب عدم وجود تعريف للإرهاب في القانون الدولي) من شأنه أن يحرم الشعوب الواقعة تحت الاحتلال من حقها المشروع بالمقاومة. من المهم التنبه لذلك والضغط لمواجهة هذا التوّجه المتوّقع من قبل الغرب.
من المتوقع أن يستمر الغرب بإجراء ضغوط كبيرة من أجل تقزيم الحق بمقاومة الاحتلال وتكبيله وتقييده
كما سيحاول الغرب توسيع الصلاحيات التي يعطيها القانون الدولي الإنساني للقوة القائمة بالاحتلال، وذلك خصوصًا لناحية إمكانية القوة القائمة بالاحتلال تغيير الواقع القانوني القائم في الأراضي المحتلة، من خلال فرض مفهوم الاحتلال التحويلي (Transformative occupation) الذي تمّ التنظير له في كبريات الجامعات الأميركية بالترافق مع الاحتلال الأميركي للعراق منذ 2003، وهو أمر مخالف لقانون الاحتلال العسكري، لا سيما للمادة 43 من الاتفاقية الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية الموّقعة في لاهاي سنة 1907 التي تشدّد على ضرورة احترام القوة القائمة بالاحتلال الوضع القانوني القائم في الأراضي التي تحتلها والمحافظة عليه، "إلا في حالات الضرورة القصوى التي تحول دون ذلك". إنّ تصريحات نتنياهو من قبيل فرض مناهج تربوية جديدة على الفلسطينيين من أجل تغيير الانسان الفلسطيني وجعله غير معاد للاحتلال الإسرائيلي تشير إلى ذلك.
بالمحصلة، من المتوقع أن يستمر الغرب بإجراء ضغوط كبيرة من أجل تقزيم الحق بمقاومة الاحتلال وتكبيله وتقييده، في حين أنّه سوف يضغط بالتوازي لتوسيع صلاحيات القوة القائمة بالاحتلال، وهما أمران مخالفان للقانون الدولي.
بالمقابل، في بلدان أخرى، كلبنان مثلًا، حيث يختلف الوضع موضوعيًا، بنظر القانون الدولي، مع ما هو قائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة حيث ما زال الشعب الفلسطيني بلا سيادة دولة، وما زالت أراضيه محتلة بالكامل بالإضافة إلى أنّه غير مختلف على ملكيتها لطرف ثالث، سوف تحاول بعض التنظيمات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة الإمعان في تشويه مفهوم مقاومة الاحتلال، وتحويره، واستغلاله من أجل توسيع هيمنتها على هذه البلدان، وانتهاك سيادتها، وانتهاك القرارات الدولية ذات الصلة.
بين النكران والاستغلال، كبيرة هي الضغوط المتقابلة التي تنتظر مفهوم مقاومة الاحتلال، والتي ستحاول تحوير مفهوم قانوني لدواعٍ سياسية. في وجه كلّ ذلك، لا بدّ من التشديد على موضوعية معايير القانون الدولي والتمسّك بها، وذلك بهدف الإبقاء على المكتسبات التي يعطيها للشعوب في مقاومة الاحتلال.