السيادة اللبنانيّة في ضياعها ثلاثي الأضلع
بين تخوينٍ، وتخوينٍ مُضاد، يتمحور الخطاب السياسي في لبنان، بوتيرةٍ مُتصاعدة، منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، حين قرّر حزب اللّه منفردًا، خارج مؤسّسات الدولة وسلطتها، وخارج الأطر الدستورية، فتح جبهةِ جنوب لبنان، فيما سماها أمينه العام، حسن نصر الله، حرب "مشاغلة"، لإسناد جبهة غزّة. وإذا كانت حرب "المشاغلة" هذه تطرح، في أقلِّ تقديرٍ، علامات استفهام كبيرة حول فعاليتها والجدوى العسكريّة منها في دعم غزّة، إلا أنّ الأكيد أنّها كانت فعالة جدًا في تعميق الشرخ السياسي الداخلي، ضمن المجتمع اللبناني، بشكلٍ كبيرٍ وخطير، بين مؤيّدٍ ومُعارض لها، وبشكلٍ أوسع، بين مؤيّدٍ لسلاح حزب اللّه، ومُعارض له.
هو مشهد مفعم بالعبثيّة، حيث الجميع يتكلّمون نفس اللغة، ويستعملون نفس الكلمات، ولكن بمعان مختلفة، لدرجة التعارض في أغلب الأحيان، إذ أضحت كلمات مثل "احتلال"، و"مقاومة"، مجرّد استعارات، ووجهات نظر، لا مفاهيم قانونيّة (قانون دولي)، واقعيّة، بمعايير دقيقة ومحدّدة وموحّدة. فمن اللبنانيين من يقول عن نفسه "مقاومة" مسلحة في لبنان، في حين أنّه من الصعب جدًا (بل غالبا من غير الجائز قانونيًا) اعتباره حركة مقاومة، ومنهم، بالمقابل، من ينكر على بعض حركاتِ المقاومة في الإقليم توصيف حركات مقاومة، وذلك لأسباب محض مزاجية- سياسية، لا علاقة لها بالقانون الدولي، في حين أنّه يقول عن نفسه إنّه يقاوم لرفع "احتلال" إيراني يمارسه لبنانيون آخرون، عن لبنان!
وفي خضم حفلة جنون الشعبويات، وشدّ العصب الطائفي، والتخاطب السياسي المتفلّت من أدنى عقلانيّة، حيث كلّ طرف لبناني أصبح بنظرِ اللبناني الآخر "خائنا" (وهي تهمة طاولت حتى الحكومة من قبل رئيس حزب معارض)، و"عميلا"، و"عدو الداخل"، يسودُ صراع السرديّات حول مظلوميّات التاريخ الهُويّاتي بين الجماعات الطائفيّة، وتنتشر الدعوات الحاقدة واللاإنسانية لعدم استقبال أبناء الوطن الواحد المهجرين من الجنوب بفعل القصف الإسرائيلي، على وقع شعار "ما بيشبهونا، وما بدنا نعيش معهم"، يقابلها تحريم التصويت في الانتخابات القادمة لأحزابٍ يُنعت مناصروها ب "صهاينة لبنان"، فضلًا عن عراضاتِ السلاح على منابر الخطابة الدينيّة.
من اللبنانيين من يقول عن نفسه "مقاومة" في لبنان، في حين أنّه من الصعب جدًا اعتباره حركة مقاومة
أمّا سيادة الدولة اللبنانية، فضائعة، حتى بما هي مطلبٍ حقيقي وشعار مبدئي، وهو غالبًا ضياع ثلاثي الأبعاد أو الأضلع، بين ثلاث سرديّات بشكل أساسي: سرديّة حزب اللّه حول "احترام قواعد الاشتباك"، وسرديّة الحكومة اللبنانيّة حول "التحلّي بالصمت والصبر والصلاة" (بتعبير رئيسها) لتقطيع المرحلة بأقلِّ ضررٍ مُمكن، وسرديّة القوى "السياديّة" التي جنحت نحو الشرنقة، والانعزال، وعناوين التقوقع الهُويّاتي ومشاريعه؛ دون أن يعني ذلك أنّه يجب المساواة بين الجهات الثلاثة في تحمّل المسؤولية بالقدر نفسه.
"قواعد الاشتباك" لغةً خشبيّة جديدة
ففيما يتعلّق بحزب اللّه، إنّ لازمة "قواعد الاشتباك" التي يردّدها الحزب، ومن يدور في فلكه، ومن يتودّد له سياسيًا، فضلًا عن الحكومة اللبنانيّة الخاضعة لهيمنته، مجرّد بناء خطابي سياسي للتغطيّة على حقيقة الطبيعة القانونيّة للأعمال العسكرية، التي افتتحها حزب اللّه انطلاقًا من جنوب لبنان، منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأوّل ٢٠٢٣، بوجه العدو الإسرائيلي. "القتال ضمن قواعد الاشتباك" هو للقول إنّ ما يجري ليس حربًا، وإنّه في حال تحوّل إلى حرب، فالمسؤولية في ذلك تقع عندئذٍ على العدو الإسرائيلي وحده، وإنّ حزب اللّه لن يكون مسؤولًا عن ذلك، ولا سيما أمام اللبنانيين.
من جهةٍ أولى، إنّ استخدام لازمة "قواعد الاشتباك"، من قبل حزب اللّه، هو لعب على الكلام (ولا سيما بسبب مصطلح "قواعد")، لإيهام الرأي العام، خصوصًا اللبناني، أنّ هناك "قواعد" في القانون الدولي (ولا سيما قانون الحرب: jus ad bellum، الذي يجب تفريقه عن القانون في الحرب)، قواعد متفق عليها صراحة (معاهدية) أو عرفيّة، تحدّد ظروف، ومدى، ودرجة الاشتباك بينه وبين العدو. وهذا أمر غير صحيح، ففي العلوم العسكريّة، "قواعد الاشتباك" هي مجموعة القواعد والتوجيهات الداخليّة التي تضعها جهة مسلّحة (قوات مسلّحة نظامية، أو مجموعة مسلّحة من غير الدول) لتحديد الظروف، والطريقة، والمدى، والدرجة، إلخ، التي يمكن فيها استخدام القوّة. بكلام آخر، إنّ قواعد الاشتباك شأن داخلي لكلِّ جهةٍ مقاتلة، وليست قواعد يتمّ الاتفاق عليها بين جهتين متقاتلين.
ومن جهةٍ ثانية، في اللغة العسكريّة أو السياسيّة، من الممكن تمامًا الحديث عن "الحرب المحدودة"، بمقابل مفهوم "الحرب الشاملة"، كما أنّه من الممكن التحدّث عن "حرب منخفضة الحدّة"، و"حرب متوسّطة الحدة"، وكذلك "حرب عالية الحدّة".
"قواعد الاشتباك" مجرّد بناء خطابي سياسي للتغطيّة على حقيقة الطبيعة القانونية للأعمال العسكرية، التي افتتحها حزب اللّه انطلاقًا من جنوب لبنان
ولكن كلّ ذلك ليس من شأنه التأثير على الطبيعة القانونيّة للنزاع. كلُّ ذلك لا يُؤخذ بعين الاعتبار لتوصيف الطبيعة القانونيّة لأعمال عسكريّة معيّنة. ففي القانون الدولي، لا تشكّل وتيرة القتال (شديد أو غير شديد) معيارًا لوجود نزاع مسلح ذي طبيعة دولية (الأمر يختلف فيما يتعلّق بالنزاعات المسلحة ذات الطبيعة غير الدولية). ففي نزاع مسلّح ذي طبيعة دوليّة، أي استخدام للقوّة المسلّحة (ولو كان ذلك ضمن حادث بسيط على جانبي حدود دوليّة) يكفي هذا لاعتبار ما يجري نزاعًا مسلحًا (حرب). عند توصيف نزاع ذي طبيعة دوليّة، لا تؤخد بعين الاعتبار، لا مدّة النزاع ولا عدد الضحايا الناتج منه.
وعليه، إنّ الحديث، سياسيًا وعسكريًا، عن حربٍ منخفضة، أو متوسّطة، أو مرتفعة الحدّة، ليس خطأ، إنّما الخطأ في محاولة إيهام اللبنانيين أنّ "الالتزام بقواعد الاشتباك" ينفي توصيف "الحرب" عن الأعمال العسكرية الجارية على جانبي الحدود اللبنانية منذ الثامن من أكتوبر بين الحزب والعدو. الخطأ هو في محاولة إيهام اللبنانيين أنّ "الالتزام بقواعد الاشتباك" هو ضمانة ("قانونية") لعدم تحوّل الحرب من حربٍ محدودة إلى حربٍ شاملة، أي ضمانة لعدم تحوّلها من حربٍ منخفضة أو متوسّطة الحدّة، إلى حربٍ مرتفعة الحدّة. وعليه، الخطأ هو في محاولة الحزب رفع كلّ مسؤوليّة عن نفسه، ولا سيما أمام اللبنانيين، في إمكانيّة تحوّل الحرب الجارية على جانبي الحدود اللبنانية من نزاعٍ محدود إلى نزاعٍ شامل. الخطأ هو في محاولة إيهام اللبنانيين أنّه في حال تحوّلت الحرب الجارية على جانبي الحدود اللبنانية من نزاعٍ محدود إلى نزاعٍ شامل، فالعدو الاسرائيلي وحده المسؤول، بنظر القانون الدولي، عن وقوع الحرب الشاملة.
إنّ اللعب على الحبال بين السياسي/ والقانوني هو مجرّد بروباغندا، مجرّد بناء خطابي ركيك، دون أيّ قيمة علمية، للتذاكي السخيف، مجرّد نوع من اللغة الخشبيّة التي تُدمن عليها العقليّات التوتاليتاريّة للدجل على شعوبها، كما بيّن ذلك، مثلًا، الكاتب البريطاني جورج أورويل في روايته 1984، وكأنّ اللعب على معاني الكلمات كاف لتغيير حقيقة الواقع! هي مجرّد "سردية" لا يمكن أن تنطلي إلّا على العقول الضعيفة، ويجب تفكيكها.
إنّ اللعب على الحبال بين السياسي/ والقانوني هو مجرّد بروباغندا، مجرّد بناء خطابي ركيك، دون أيّ قيمة علمية
الخلاصة أنّ ما يجري على جانبي الحدود الجنوبيّة للبنان هو نزاع مسلّح (حرب) ذي طبيعة دوليّة، وذلك منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأوّل ٢٠٢٣ عندما افتتح حزب اللّه هذا النزاع، وذلك مهما كانت "قواعد الاشتباك" الداخليّة لكلِّ جهةٍ مقاتلة، ومهما كان مدى التزام حزب اللّه أو العدو الاسرائيلي بـ "قواعد الاشتباك"، ومهما كانت الحدّة التي يمكن أن يبقى عليها أو أن يتطوّر تصاعديًا حسبها هذا النزاع. لا قيمة لما يسمّى "قواعد اشتباك"، ولا لمدى الالتزام بها، في توصيف نزاعٍ مسلّحٍ ذي طبيعة دوليّة، ولا في تحديد المسؤولية عن نشوب نزاعٍ مسلّح، أو توسّعه. كون هذا النزاع ما زال محدودًا ليس من شأنه أن ينفي صفة النزاع المسلح ("الحرب") عنه بدعوى "الالتزام بقواعد الاشتباك. كلّ هذا الكلام بعيد كلّ البعد عن القانون ومفاهيمه. هو مجرّد محاولة تلطّي خلف مفردات شبه قانونية (pseudo-juridiques ـ ككلمة "قواعد") لإيهام الناس أنّ الحزب يلتزم بالقانون. وعلى اللبنانيين أن يعوا هذه الحقيقة التي رماهم فيها الحزب دون استشارتهم، مخاطرًا بوقوعِ حربٍ شاملة، ولاعبًا بهذا الشكل، على حافة الهاوية، بسلامة وأمن لبنان واللبنانيين، وذلك بفعل استفراده (خارج مؤسّسات الدولة وسلطتها، وخارج الأطر الدستوريّة) بقرار الحرب في لبنان بوجه العدو، وألّا يقبلوا بمحاولة غسل أدمغتهم ببروباغندا سخيفة وسرديّات الدجل على الذات، أو تحت التهديد بالتخوين وإجراء فحوص الدم بالوطنيّة.
الحكومة اللبنانية: غياب استقلاليّة القرار عن حزب اللّه
ولكن ليس حزب اللّه وحده المسؤول، فالحكومة اللبنانية، الساكتة عمّا يحصل، مسؤولة أيضا عن التفريط بسيادة الدولة. إنّ مقارنة بين موقف الحكومة اللبنانيّة اليوم، وموقف الحكومة اللبنانيّة أثناء حرب 2006، كفيل بتوضيح الصورة. فبعد حرب 2006، انقسم الفقه في القانون الدولي حول مسؤولية الدولة اللبنانيّة (ليس فقط السلطة) عن أعمال حزب اللّه، بين من اعتبر الدولة اللبنانيّة طرفًا في نزاعِ صيف 2006، وبين من لم يعتبرها طرفًا في النزاع. وقد استدل أصحاب النظريّة الثانية، بشكلٍ أساسي، بمواقف حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، التي ميّزت من خلالها موقف الدولة اللبنانيّة، عن موقف حزب اللّه (التمييز لا يعني بالضرورة دائمًا التعارض)، كي يبرهنوا الاختلاف العضوي بين الدولة اللبنانية، وبين تنظيم مسلّح على أراضيها (بمعنى أنّ الحزب ليس "جهازا" من أجهزة الدولة اللبنانية، ليس تنظيمًا للدولة اللبنانيّة أو تابعًا لها)، وكي يستخلصوا ممّا تقدّم عدم مسؤولية الدولة اللبنانيّة عن أعمال الحزب، واعتبارها أنّها ليست طرفًا في النزاع المسلّح الذي حصل في صيف 2006. حتى في حينها، الأمر كان صعبًا، ولا سيما أنّ بعض كبار فقهاء القانون الدولي الإنساني، كالسويسري روبير كولب، قالوا بمسؤوليّة الدولة اللبنانية عن أعمال الحزب العسكريّة، واعتبروا الدولة اللبنانيّة طرفًا في نزاع صيف 2006 المسلّح. فما بالك اليوم؟
اليوم، من الصعب أن نجدَ في قراراتِ أو مواقف الحكومة، ما يمكن البناء عليه من أجل التفريق بين موقف الدولة اللبنانيّة، وبين موقف تنظيمٍ مسلّحٍ على أراضيها، هو طرف في نزاعٍ مسلّحٍ ذي طابع دولي؛ ما عدا ربّما بيان يتيم (وبجميع الأحوال من الصعب أن يكون كافيًا)، وهو ذاك الذي صدر عن رئاسة الحكومة، بُعيد سقوط ضحايا في مجدل شمس السوريّة المحتلة، تدين فيه الحكومة اللبنانيّة أعمال العنف ضدّ المدنيين وتدعو لوقف فوري للأعمال العدائية على كلِّ الجبهات، ولكن هذا الاختلاف عادَ وتبدّد بتصريحاتٍ لاحقة، خصوصًا لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ولوزير الخارجية عبد اللّه بو حبيب، ولرئيس مجلس النواب نبيه بري، كلّها متناغمة، أحيانًا لدرجة التماهي التام، مع موقف الحزب. أمّا كون الحكومة الحاليّة مستقيلة، وفي ظلِّ شغور موقع رئاسة الجمهورية، فلا يعفيها إطلاقا من مسؤوليّة تمييز نفسها عن تنظيم مسلّح عامل على أراضيها ومنها، وهذا أضعف الإيمان، وذلك تفاديًا لكلِّ ما ينتج من عدم هذا التفريق من تداعياتٍ كارثيّة قانونيّة (قانون دولي)، وعسكريّة، وسياسيّة (خارجية)، على عاتق الدولة اللبنانيّة، وعلى سلامة اللبنانيين وأمنهم.
الحكومة اللبنانية، الساكتة عمّا يحصل، مسؤولة أيضا عن التفريط بسيادة الدولة
بالتالي، المشكلة اليوم ليست بعدم عودة الحزب للدولة اللبنانيّة كي تفاوض هي على القرار 1701 (أي بعدم قيام الحزب بما قام به في هذا الخصوص في 2006)، كما يشخّص ذلك بعض النواب أو الشخصيّات "السيادية"، بقدر ما هي في عدم وجود أيّ اختلاف في المواقف بين الدولة اللبنانيّة وبين الحزب، من النزاع الدائر. المشكلة اليوم مشكلة استقلاليّة قرار الحكومة اللبنانيّة. في 2006، عندما فاوضت الحكومة اللبنانيّة على القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، فعلت ذلك بشكلٍ أساسيٍّ باسم الدولة اللبنانيّة، وتبعًا لمصلحة الدولة اللبنانيّة، آخذة بعين الاعتبار، بشكلٍ رديف، مصلحة الحزب الذي كان ممثلًا في الحكومة، والذي كان يُبدي ملاحظاته، واقتراحات التعديل، ثم وافق على 1701 في الحكومة، ولو ادّعى أحيانا عكس ذلك بعدها.
اليوم، حتى لو عاد الحزب إلى الدولة اللبنانيّة، ممثلةً بالحكومة، كي تفاوض هي لوقف إطلاق النار، سيجري عمليًا التفاوض، بشكلٍ أساسي، ليس بشروط الدولة اللبنانيّة، أو تبعًا لمشيئتها ولمصلحتها (كما جرى في 2006)، بل ستفاوض الدولة اللبنانيّة بشكلٍ أساسي عن الحزب، وبشروطه، وتبعًا لمشيئته، ولمصلحته. وهذا أمر من شأنه أن يزيد الطين بلّة لجهة صعوبة الفصل بين مسؤوليّة الدولة اللبنانية، عن مسؤوليّة الحزب، في الحرب الدائرة.
بالتالي، المعضلة أصبحت اليوم أعمق بكثير من مسألة رجوع الحزب أو عدم رجوعه للدولة، كي تفاوض على 1701. المعضلة اليوم في ضعف، أو شبه انعدام أيّ استقلاليّةٍ لقرارِ الحكومة اللبنانية، التي تمثّل الدولة اللبنانية، عن قرار الحزب، وما ينتج من ذلك من صعوبةٍ في التفريق جوهريًا بين الدولة اللبنانية، وبين تنظيمٍ مسلّحٍ عامل على أراضيها ومنها، وهو طرف في نزاع مسلّح ذي طابع دولي. هذه معضلة يعالجها القرار 1559 (والقرار 1680)، وليس 1701. إذا أردنا تجنيب الدولة اللبنانيّة المسؤوليّة عن أعمال التنظيمات المسلّحة العاملة على أراضيها ومنها، فلا يمكن فصل المطالبة بتطبيق القرار 1701 عن المطالبة بتطبيق القرارين 1559 و1680، ولا سيما أنّ عطف القرار 1701 على هذين القرارين السابقين وارد صراحة في متن القرار 1701 نفسه.
تقوقع الحالة السياديّة وانعزالها عن قضايا محيطها
أمّا المعارضة "السيادية"، فتسأل عن التفريط بالسيادة كشعار، وذلك بعد أن حوّرته، وشوّهته، ومسخته، وفرّغته عمليًا من مضمونه الجامع. فمنذ بدء أزمة 2019، ومع ازديادِ التشرذم ضمن الحالة السياديّة، جنح أغلب رموزها وأحزابها نحو التطرّف اليميني الهُويّاتي الطائفي في الخطاب، بوجه تطرّفٍ يمينيٍ هُويّاتيٍ طائفيٍ آخر متمثّل في خطاب حزب اللّه، مبرّرين ومشرّعين بذلك، ولو بشكلٍ غير مباشر، خطاب خصمهم بنظر بيئته. وهم بذلك قد انتقلوا من "سياديّة" إنسانويّة، جامعة، عابرة للطوائف، كما كان الحال ضمن حركة 14 آذار، للعودة إلى "سياديّة" شرنقة، وتقوقع، وأنانيّة، وانغلاق، وانعزال، وانزواء، وكراهية، وصراع حضارات، وتقسيم، وتبعية لأنظمة، بوجه تبعية أخرى، وهو خطاب ينفّر قسما كبيرا من اللبنانيين، أي كما كانت عليه "السيادية" أثناء الحرب الأهليّة اللبنانية، ولا سيما ضمن "الجبهة اللبنانية".
ويترافق ذلك مع عزل الحالة السياديّة نفسها عن محيطها الشعبي العربي، إذ غاب عن قياداتها الحسّ التاريخي، فلم يقدّروا أهميّة اللحظة الإقليميّة الجديدة التي بدأت مع عملية "طوفان الأقصى"، ولم يكونوا على مستوى الحدث، ولا بالذكاء المطلوب لمواجهة هكذا حدث. أيّدوا الأنظمة العربيّة، ووضعوا أنفسهم في مواجهةٍ مع الشعوب، ساووا بين الضحيّة والجلاد في غزّة، أي بين من يقوم بالاحتلال، وبين من هو خاضع للاحتلال، مفضلين بذلك الجلاد عمليًا، ومشيطنين التضامن مع حقّ الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال. وقد فقدت بذلك الحالة السياديّة اللبنانيّة علوّها الأخلاقي، فسقط بريقها، أو ما كان تبقّى منه منذ ١٤ آذار (عندما كانت جامعة، إنسانية)، بنظر الكثيرين.
من غير الجائز أن يكون شعار السيادة، كما جرى مسخه اليوم، مجرّد مطيّة لمشروعِ تقوقعٍ هُويّاتي (التقسيم الصريح، أو المقنّع بالفيديرالية على أساسٍ طائفي)، وشرنقة، وأحقاد، وتمييز طائفي مناطقي وهرمية، حتى بين الضحايا والقتلى، بوجه مشروعٍ مماثلٍ يمثّله حزب اللّه. من المحزن أن يقع كثير من "السياديين" في انعدامِ التناسق الفكري، وأن يظهروا بمظهر انعدام الجديّة الناتج من ذلك بنظر العالم، ولا سيما عندما يطالبون بتطبيق القانون الدولي وقرارات الشرعيّة الدوليّة بما يتعلّق بلبنان، في حين أنّهم يروّجون، بنفس الوقت، لهرطقاتٍ هزليّة في القانون الدولي، من قبيل "الاحتلال الإيراني للبنان" بواسطة حزب اللّه. من المؤسف أيضًا أنّ يصبح المشروع السيادي لبناء الدولة والنهوض بلبنان، مجرّد مُرادف للثقافة المركنتيلية، وذهنيّة إدارة الدكاكين وشركات السياحة والتسلية، بذريعة "ثقافة الحياة"، مشروع يغيب عنه قيام دولة قويّة تحمي وحدها لبنان، وتدافع وحدها عنه بوجه عدو متربّصٍ على حدوده الجنوبية، عدو يخرق القرار 1701 بشكلٍ متكرّر قبل الثامن من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، وبعده.
بالمحصلة، لبنان وسيادة دولته يتخبّطان ضمن مثلث العبثيّة والعقم السياسي، في مشهدٍ كئيب، كثر فيه السياسيون، وغاب عنه رجال الدولة، إلّا من رحم ربّي.