بين الدول والجماعات المسلحة.. ماذا يقول القانون الدولي؟
يبني الكثير من المحلّلين في العالم العربي موقفهم من حركة حماس، إيجابيًّا أم سلبيًّا، ليس على القانون الدولي، ولا سيما الحق بمقاومة الاحتلال الذي يكفله هذا القانون للشعوب، بقدر ما هو على كون حماس جماعة من بين الجماعات المسلحة من غير الدول (non- state armed groups)، المنضوية ضمن ما يسمى "محور الممانعة".
فإذا كان هؤلاء المحللون مؤيّدين لـ"محور الممانعة" التابع لإيران، أيّدوا عندها حماس وعملها العسكري بشكل تلقائي، أما إذا كانوا معارضين لهذا المحور، فمنهم من يعارض عندها أوتوماتيكيًّا حماس وعملها العسكري، مذكرين، من خلال تصرّفهم هذا، بنظرية العالم الروسي الشهير إيفان بافلوف.
وهم غالبًا ما يغفلون بذلك، في بناء موقفهم هذا، معطى أساسيًّا يميّز حماس عن باقي تلك الجماعات المسلحة في الإقليم، وهو واقع الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية حيث تعمل حماس، والذي يجعل منها حركة مقاومة (تحرير وطني).
بكلام آخر، بسبب اعتمادهم معيارًا سياسيًّا تنقصه الدقة، غالبًا ما ينظر هؤلاء المحللون، على اختلاف انتماءاتهم، إلى هذه التنظيمات العسكرية من منظار أنّها جماعات مسلحة من غير الدول، منضوية عمليًّا في محور واحد، هو "محور الممانعة"، فإذًا هي، بنظرهم، كلّها متشابهة فيما بينها إلى حدٍّ بعيد. ويؤدي اعتماد هذا المعيار السياسي الفضفاض، الذي يتم من خلاله الجمع بين كلّ هذه التنظيمات المسلحة في سلة (خصوصًا قانونية) واحدة، إلى الوقوع في خطأ عدم التفريق بين وضع حماس كحركة مقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبين وضع فصائل "محور الممانعة" في البلدان العربية الأخرى، لا سيما في لبنان، والعراق، واليمن. وقد جاء شعار "وحدة الساحات" ليزيد طين هذا "الخلط" بلة.
ضرورة التفريق بين الجماعات المسلحة من غير الدول في "محور الممانعة"
ولكن، من جهةٍ أولى، فإنّ نظرة سياسية أكثر تمعنًا كفيلة بأن تظهر ركاكة هذا المعيار السياسي الفضفاض، فما يوصف لدى البعض بأنه "ولاء" حماس لإيران يختلف مثلًا عن "ولاء" حزب اللّه في لبنان، أو فصائل الحشد الشعبي في العراق، لإيران. ومردّ ذلك ليس فقط البعد الجغرافي عن إيران الذي يميّز حماس عن أغلبية التنظيمات العسكرية الأخرى المنضوية ضمن "محور الممانعة"، بل أيضًا تميّز حماس في الانتماء الطائفي (حماس حركة "سنية")، الذي ينتج عنه تميّز عقائدي (حماس لا تقول بولاية الفقيه)، وأيديولوجي (عدم الإيمان بالمقاومة كـ"نهج حسيني" مرتبط بشكل عضوي بأيديولوجيا الجمهورية الإسلامية في إيران وكلّ مفاهيم هذه الأيديولوجيا)، عن أغلبية هذه التنظيمات، فضلًا عن تميّز حماس في بعض المواقف الأساسية المتعلقة بالسياسة الإيرانية في الإقليم، ولا سيما رفض الحركة الانخراط في الحرب في سورية إلى جانب النظام وإيران خلال العقد المنصرم، بعكس حزب اللّه اللبناني والفصائل الشيعية العراقية.
"ولاء" حماس لإيران يختلف عن ولاء حزب اللّه في لبنان، أو فصائل الحشد الشعبي في العراق، لإيران
ومن جهة أخرى، فإنّ اللجوء إلى القانون الدولي ومعاييره الموضوعية، كفيل بأن يجعل الصورة أكثر وضوحاً. ففي الأراضي الفلسطينية، يختلف الوضع بنظر القانون الدولي مع ما هو قائم في لبنان أو في العراق أو في اليمن، إذ ما زال الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية بلا سيادة دولة، وما زالت أراضيه محتلة بالكامل منذ 1967 من قبل إسرائيل (حصار غّزة قبل الحرب الأخيرة يرقى لحالة احتلال عسكري بنظر فقه القانون الدولي)، فضلًا عن أنّه غير مختلف على ملكيتها لطرف ثالث.
وعليه، فإنّ الجماعات المسلحة الفلسطينية من غير الدول في الأراضي الفلسطينية المحتلة هي حركات مقاومة احتلال (إسرائيلي) بنظر القانون الدولي، وذلك بالاختلاف مع التنظيمات المسلحة الأخرى المنضوية في "محور الممانعة" في بلدان أخرى، التي لا نرى أنّه يمكن اعتبارها، بنظر القانون الدولي، "حركات مقاومة" ضد إسرائيل. فهذه الجماعات المسلحة الأخرى تعمل إمّا في بلدان غير محتلة نهائيًّا من قبل إسرائيل (العراق واليمن)، وإمّا في بلد (لبنان) تم تحرير أراضيها من الاحتلال الإسرائيلي، ولم يبق فيها إلا بعض الأراضي، المختلف على ملكيتها لطرف ثالث، محتلة من قبل إسرائيل، هذا فضلًا عن وجود دولة في هذه البلدان الأخرى، بحيث قد يشكل سلاح هذه التنظيمات العسكرية نوعًا من الانتهاك لسيادتها، ولا سيما لمبدأ حصرية السلاح بيد الدولة، ولمبدأ أن يكون قرار الحرب والسلم بيد الدولة وحدها.
وصم حركات التحرّر الوطني لإنكار الحق بمقاومة الاحتلال
وينطلق أصحاب نظرية عدم التفريق بين الجماعات المسلحة من غير الدول، المنضوية اليوم في "محور الممانعة"، إلى محاولة أوسع لوصم حركات التحرّر الوطني بشكل كلّي وشامل، ولا سيما عبر تشويه تاريخ هذه الحركات ومفهومها.
فغالبًا ما يُوصم هؤلاء المحللون تاريخ نشأة الجماعات المسلحة من غير الدول، عبر تعميمٍ تعسفي لدور تاريخي سلبي لعبه بعضها، ما يخوّلهم تعميم صورة نمطية سلبية عن تاريخ مجموع الجماعات المسلحة من غير الدول. فهم يحصرون تاريخ هذه الجماعات المسلحة بتلك التي كانت أذرعًا للاتحاد السوفييتي، أو للأنظمة العربية الدائرة في فلكه، أثناء الحرب الباردة، قائلين أنّ الهدف الأساسي من إنشاء هذه الجماعات المسلحة كان فقط وسيلة لتحقيق المدّ الشيوعي عبرها، أو في منطقتنا من العالم، فقط لمعارضة مشروعية الأنظمة العربية "التقليدية"، وذلك عبر تقديم هذه الجماعات المسلحة نفسها حركات معارضة لهذه الأنظمة.
وهم بذلك يغفلون، من جهة أولى (وذلك لا يخلو من نقص في الأمانة العلمية)، دور المعسكر الآخر ("العالم الحر") في انتهاج الأسلوب نفسه في تلك الحقبة، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، خصوصًا في أميركا اللاتينية. ويشكل تنظيم الكونتراس في نيكاراغوا مثالا، بين أمثلة كثيرة أخرى، على ذلك (مراجعة قرار محكمة العدل الدولية نيكاراغوا ضد/الولايات المتحدة الأميركية 1986).
من غير الجائز أخلاقيًّا أن ينكر المرء، بناء على معيار سياسي فضفاض، الحق بمقاومة الاحتلال كحق أساسي يكفله القانون الدولي
ومن جهة ثانية، وهنا بيت القصيد، هم يغفلون حقيقة الدور الإيجابي الذي لعبته الكثير من هذه الجماعات المسلحة من غير الدول، في العالم الثالث، في تحرير أوطانها، ولا سيما أنّ بعض هذه الجماعات المسلحة من غير الدول كانت حركات تحرّر وطني بكلّ ما للكلمة من معنى، كجبهة (وجيش) التحرير الوطني الجزائرية، التي لعبت دورًا إيجابيًّا كبيرًا في تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، أو حركة Umkhonto we Sizwe التي أسّسها نيلسون مانديلا سنة 1961، والتي لعبت دورًا إيجابيًّا كبيرًا في تحرير جنوب أفريقيا من نظام الأبارتهايد (الفصل العنصري)، فضلًا عن غيرها من التنظيمات العسكرية الكثيرة التي لا مجال لذكرها هنا.
وهذا ما دفع الجمعية الوطنية للأمم المتحدة، عندئذ، للتأكيد مرارًا، في سلسلة من قراراتها، بناء على قرارها الأساسي رقم 1514 (الدورة 15) بتاريخ 14 ديسمبر/ كانون الأول 1960، على شرعية نضال الشعوب من أجل التحرّر من الاستعمار والهيمنة الأجنبية بكلّ الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلّح، والاعتراف بذلك بدور حركات التحرّر الوطني. وهو ما جرى تكريسه في الفقرة الرابعة من المادة 1 من الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف، 1977 الذي يعتبر أنّ "المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير، كما كرّسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقاً لميثاق الأمم المتحدة" تشكل نزاعات مسلحة ذات طابع دولي. (مراجعة مقال "مآلات الحق بمقاومة الاحتلال بعد الحرب على غزة").
أما الأخطر من محاولاتهم تشويه التاريخ، فهو أنّ أصحاب نظرية عدم التفريق بين الجماعات المسلحة من غير الدول، ومنهم مثقفون في صلب الحراك السيادي في لبنان مثلًا، ينفذون من كلّ ما تقدّم إلى اعتبار أنّ توصيف الغرب لهذه المليشيات "غير الدولتية" أو "من غير الدول" اليوم، هو جريمة أخلاقية بحق شعوب المنطقة، الواقعة عمليًّا تحت حكم هذه الجماعات المسلحة، ويطالبون أميركا وغيرها من الدول الغربية بنزع صفة "غير الدولتية" عن هذه التنظيمات المسلحة، لأنّ هذه الجماعات لم تعد معارضة، بل أصبحت هي التي تحكم فعليًّا البلدان التي تهيمن على قرارها بقوة السلاح، مستفيدة من صورتها كمعارضة للنظم القائمة.
الخيار السياسي شيء والحق شيء آخر، إذ لا يصح أخلاقيًّا، لتغليب الرأي السياسي المعارض لحماس وفرض هذا الرأي على الجميع، أن يجري تزوير القانون الدولي، وإسقاط الحق بمقاومة الاحتلال
يصيب هؤلاء المحللون في تحليلهم السياسي لواقع البلدان العربية التي تسيطر عليها هذه التنظيمات العسكرية التابعة لإيران، ولكنهم لا يتنبهون إلى أنّهم، بسبب خطأهم الفادح في عدم التفريق بين ما هو سياسي (مفهوما المعارضة السياسية والموالاة)، وما هو قانوني (مفهوم الدولة)، سيكون لطروحاتهم هذه نتائج كارثية على سيادة الدولة، أي بمفعول عكسي لما يطمحون له. فهم بذلك يسدون أكبر خدمة لهذه الجماعات المسلحة من غير الدول التي يعارضون هيمنتها على بلدان المنطقة. الأحرى بهم التشديد، أي بعكس ما يؤدي إليه طرحهم، على ضرورة أن تجعل السياسة الأميركية من مفهوم الدولة وسيادة الدولة مركز دائرة سياساتها الخارجية، وأساسًا لتعاملها مع البلدان الأخرى، ولا سيما في منطقتنا من العالم، لا مع المليشيات.
فمفهوم الجماعات هو أساسًا مفهوم قانوني، وليس مفهومًا سياسيًّا (معارضة وموالاة)، إذ يفرّق القانون الدولي الإنساني (قانون النزاعات المسلحة)، بشكل عام، بالنسبة للأطراف المشاركة في نزاع مسلح (ذي طابع دولي أو غير ذي طابع دولي)، بين "القوات المسلحة" (المجموعات المسلحة النظامية لدولة طرف في نزاع مسلح) من جهة، وبين "الجماعات المسلحة من غير الدول" (أي طرف من غير الدول في نزاع مسلح دولي أو غير دولي من جهة أخرى).
هذا مع العلم أنّ كون طرف في نزاعٍ مسلح "جماعة مسلحة من غير الدول" لا يعفي الدولة الأجنبية، التي ممكن أن تكون تابعة لها هذه الجماعة المسلحة من غير الدول، من المسؤولية عن أعمال هذه الجماعة، ولكن بشرط أن يجري إثبات أنّ هذه الدولة الأجنبية تمارس سيطرة فعلية (contrôle effectif) على الجماعة المسلحة من غير الدول العاملة خارج أراضي هذه الدولة، وليس فقط سيطرة عامة (contrôle global).
خلاصة
بالمحصلة، للمرء الحرية في أن يعارض ليس فقط فكر حماس، ولا فقط تحالفاتها الإقليمية، بل أيضًا سلاحها، وحتى عملية 7 أكتوبر، وخيار مقاومة الاحتلال في فلسطين كخيار من أساسه. ولكن من غير الجائز أخلاقيًّا، خدمة لهذه القناعة السياسية، أن ينكر المرء، بناءً على معيار سياسي فضفاض (كون حماس جماعة مسلحة من غير الدول من بين جماعات مسلحة أخرى)، الحق بمقاومة الاحتلال كحق أساسي يكفله القانون الدولي (طبعًا ضمن شروط متعدّدة، وأهمها وجود حالة احتلال عسكري في الأراضي التي تعمل عليها حركة المقاومة) للشعوب (الفلسطيني هنا)، والذي تمارسه بعض الجماعات المسلحة من غير الدول، التي تصبح عندها حركات مقاومة/ حركات تحرر وطني.
فالخيار السياسي شيء، أما الحق فشيء آخر. بكلام آخر، لا يصح أخلاقيًّا، لتغليب الرأي السياسي المعارض لحماس وفرض هذا الرأي على الجميع، أن يجري تزوير القانون الدولي، وإسقاط أحد الحقوق الأساسية التي يكفلها (الحق بمقاومة الاحتلال)، وذلك من باب محاولة تشويه صورة وتاريخ ومفهوم حركات المقاومة (حركات التحرّر الوطني) التي تمارس هذا الحق. ويجري هذا التشويه بشكل أساسي بفعل عدم التفريق سياسيًّا، وخصوصًا قانونيًّا، بين حركات مقاومة الاحتلال، وبين جماعات أخرى مسلحة من غير الدول ممكن أن تكون متحالفة معها من بلدان أخرى، فضلًا عن محاولة تسييس مفهوم قانوني كمفهوم "الجماعات المسلحة من غير الدول".
فهذا تصرّف لا يمت إلى الديمقراطية ولا إلى النزاهة بأيّة صلة، وهو لا يختلف إطلاقًا عمّن، في المقابل، في غير بلدان، كلبنان مثلًا، يشوّه مفهوم مقاومة الاحتلال، ويحوّره، ويستغله من أجل توسيع هيمنته على هذه البلدان، وانتهاك سيادتها، وانتهاك القرارات الدولية ذات الصلة. الموقفان وجهان لعملة واحدة.
في وجه محاولات إنكار الحق بالمقاومة لأسبابٍ سياسيةٍ من جهة، ومحاولات استغلاله لأسباب سياسيةٍ مقابلة من جهة أخرى، لا بدّ من اللجوء إلى القانون الدولي كفيصل، ولا سيما أنّ معاييره موضوعية ودقيقة. فمن شأن ذلك أن يتيح تخطّي هذه المحاولات التحويرية التشويهية السياسية المتقابلة، والإبقاء على المكتسبات التي يعطيها القانون الدولي للشعوب في مقاومة الاحتلال.
تحتّم المعايير الموضوعية للقانون الدولي، ولا سيما لقانون الاحتلال العسكري، كما حاولنا تبيانه آنفًا، عدم الخلط بين الحالات والبلدان، بل توجب التفريق بين الحالات التي يختلف فيها الوضع موضوعيًّا بنظر القانون الدولي، ولا سيما قانون الاحتلال العسكري.
ولكن تمرينًا ذهنيًّا كهذا يتطلب الخروج من المانوية والمحدودية في التفكير، والبعد عن المزايدات الشعبوية المتقابلة، فالوضوح في الرؤية وليس التعميم التعسفي، وهذا لا يكون بخلط الأمور المختلفة ببعضها. فالوضوح يكون في الدقة (nuance) والموضوعية، لا غير.