ملف: الوأد الاقتصادي (26)

19 مارس 2023
+ الخط -

أحب سعاد حسني، ليس فقط لأنها ممثلة رائعة، لكن أيضاً لأنها بطلة أفلام شديدة التعبير عن مجتمع مصر أولاً، والعالم العربي ثانياً، في فترة كانت مصر تتقدم هذا العالم كمنارة تفكير وثقافة وفن. أفلام تساوت في القيمة مع مؤلفات كبار الأدباء والشعراء واللامعين في الفنون كافة، وعبرت مواضيعها عن مجتمعاتنا ومشاكلها، طارحة حلولاً، ليست مهمة، إلا بقدر ما تثير من نقاش بين الناس.

وحين أحب سعاد حسني هذه، أكون في الحقيقة أحب فترة تلك الأفلام، خاصة الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي. حين كان العالم كله، لا مصر أو العالم العربي فقط، يعيش فترة ازدهار بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

تذكرت سعاد حسني في فيلمها “السفيرة عزيزة” حين قرأت في الصحف ما حصل للأستاذة الجامعية اللبنانية زهراء الطشم، والتي ضجّت الأخبار مؤخراً بنبأ سحلها وتعنيفها وضربها من قبل أخويها بسبب مشكلة إرث.

ففي الفيلم الذي لعبت فيه سعاد (ولنسمها فقط هكذا للود الذي بيننا دون معرفتها) دور البطولة إلى جانب شكري سرحان، يتحدث عن مشكلة زهراء ذاتها لكن... في العام 1961. أي منذ ستين عاماً ونيّف.

من شاهد منكم الفيلم؟ القصة لمن لم يشاهده تحكي عن “عزيزة” التي يلقبها جيرانها بـ“السفيرة عزيزة” كنوع من السخرية، لأن أخاها، وهو صاحب محل جزارة، لا يسمح لأحد بالنظر أو التحدث إليها. لكن غيرة هذا الأخ سرعان ما تظهر على حقيقتها: خوف من أن تتزوج وتطالبه بإرثها الذي استولى عليه.

كثيرون، ومنهم أنا، لم يفهموا بداية أهمية الموضوع المطروح، أو ربما فكروا أنّها حالة معزولة، لدرجة أنها تصلح كموضوع مميز للفيلم، نوع من خبر مثير، قصة تروى. لكن تبين أن الواقع معاكس تماماً. فبقليل من البحث، اكتشفت أن الموضوع منتشر لدرجة مخيفة في كل البلدان العربية، وهذا ما ألهم مؤلف القصة، أمين غراب، الذي يقال إنّه اقتبسها من كتاب “صندوق الدنيا” للمازني.

حسناً، كان هذا صحيحاً قبل أن تعدّل مصر عام 2017 مشكورة، القانون رقم 77 للعام 1943 وتعتبر الامتناع عن تسليم الإرث الشرعي جريمة يعاقب عليها القانون بالحبس من 6 أشهر حتى سنة وبغرامة تصل إلى مائة ألف جنيه، كما يعاقب كل من حجب أو امتنع عن تسليم مستند يثبت ميراثاً بالحبس 3 أشهر وبغرامة عشرة آلاف جنيه.

وعلى ما يبدو، أن العرف بعدم توريث النساء سار بشكل مهول في صعيد مصر. ففي الصعيد هناك ما يسمى بالعرف الرضوي. أي ترضية الأنثى بمبلغ مادي عوضاً عن الميراث الذي يكون عادة أرضاً أو بيوتاً. لا بل إنّ الخبيرة القانونية المصرية أشجان البخاري تجزم بأنّ نسبة 95% من نساء الصعيد خضعن لتقاليد “لا تحبذ توريث المرأة خوفاً من استيلاء زوجها وأولادها، وهم في عرفهم “أغراب”، على ميراث العائلة. لا بل يذهب البعض إلى تعليل ذلك بأن الأب صرف على تربية الأنثى وتعليمها وتزويجها، لذا لا يحق لها المزيد”. كما لو أنه لم يصرف على تربية الذكر وتعليمه وتزويجه!

المفارقة أنهن، غالبية الوقت، يرتضين التنازل عن حقهن في الميراِث من أجل حفظ اسم عائلة لا تخولهن توريث اسمها ولا حتى إرثهن الشرعي

وإن كانت حكاية زهراء مشابهة من حيث الموضوع، أي إرث البنات، فإن نهايتها لم تكن سعيدة كما حصل في الفيلم. ففي هذا الأخير يفضي تحريض عزيزة لزوجها إلى انتزاع هذا الأخير إرث زوجته من أخيها الشرس بالقوة، فترضى وتتقبل الزواج بعد أن امتنعت عليه لأنها تريد “راجل يحميني ويجيب لي حقوقي”. أما زهراء، التي كتب لها والدها المتوفي، وهو أستاذ معروف ومحترم، بيتاً باسمها دون أخويها، فقد تعرضت للضرب والسحل لامتناعها عن مشاركة هذين الأخوين ما تركه لها والدها.

لكن زهراء لم تراهن على رجل آخر كعزيزة لانتزاع حقها. لذا قامت بما يليق بسيدة عصرية متعلمة. اشتكت أوّلاً للمخفر ثم رفعت على أخويها دعوى أمام المحكمة كونهما، إلى جانب اعتدائهما عليها، سرقا من المنزل أوراقاً رسمية متعلقة بذاك الإرث.

دفعني الموضوع الذي تابعته في الإعلام، للتفتيش عن أبعاد المشكلة. فذهلت فعلاً. هناك من قال لي إنّ قضايا العنف الاقتصادي، خاصة لجهة الامتناع عن تسليم الفتيات إرثهنّ الشرعي أو التحايل على القانون للوصول إلى النتيجة نفسها، منتشر في العالم العربي. ومصر ليست حالة فريدة، ففي السنوات العشرين الماضية تصاعد نضال النساء في تونس مثلا من أجل إقرار المساواة في الإرث، وقد كان هناك مشروع قانون قدمه الرئيس السابق هناك الباجي قائد السبسي من أجل إقرار هذا الحق. لكن القانون لم يقر ولا تزال المعركة قائمة.

أما في المغرب، فلقد توصلت نساء ما يسمى هناك بـ“أرض السلالات” * إلى الظفر بحقوقهن في إرث الأرض بعد نضال طويل ومضنٍٍ.

شهوة الأرض هذه، هي أيضاً خلف الزواج الداخلي في العشائر، أي فقط من العائلة نفسها، وما يجره من ويلات صحية على الأجيال اللاحقة. إلى ذلك، يتجاهل هؤلاء أنهم هم أيضاً يستولون، بالزواج من عائلات أخرى، على جزء من أراضي عائلة الزوجة. لكن الأهمّ، أنهم يتجاهلون حتى شرع الله الذي يحتجون به حين يناسبهم ويشيحون بوجههم عنه، حين لا يكون في مصلحتهم.

هناك وثنية مموهة في هذه التصرفات. هناك شيء من جشع “أبي لهب” وأمثاله من تجار أوثان الجاهلية، لا بل هناك شيء من وأد البنات. وأد اقتصادي أكاد أقول.

وفي بلادنا، تخضع غالبية النساء لهذا الوأد الاقتصادي. المفارقة إنهن غالبية الوقت، يرتضين التنازل عن حقهن في الميراِث من أجل حفظ اسم عائلة لا تخولهن توريث اسمها ولا حتى إرثهن الشرعي.

ماذا يقال عن كل هذا؟ ربما فقط كلمة واحدة، كان صلاح جاهين، الشاعر الكبير الذي كان هو أيضاً يحب سعاد حسني، يختم بها رباعياته: عجبي!

*انظر مقالة عائشة بلحاج في “السفير العربي”: السلاليات في المغرب: “هذه الأرض لنا”.