مرض فتّاك... الانبهار بالغرب وجلد الذات
مصطفى العادل
بعد مضي وقت ليس بالقليل على آخر مقالة كتبتها في هذا المنبر العربي الراقي، أعود لألتقي القرّاء الأعزاء في مقالة جديدة، نُلقي من خلالها الضوءَ على بعض النقاشات التي تشغل أمتنا العربية الإسلامية في الوقت الراهن.
أولاً، أريد أن أقدّم اعتذاري المسبق للقارئ الكريم، لأنّ الكلمات تتدفق، والموضوعات تسرقني من مجال إلى آخر، ولا بأس أن أصرِّح بأنني أحاول اعتماد الرؤية التكاملية، والمقاربة البينية في القضايا التي أناقشها، فالرياضة، والسياسة، والدين، والثقافة، وإشكالات الحضارة، والعلم. كلّها تشكّل نظاماً مشتركاً، ونسقاً متكاملاً، يضعف أي تحليل لقضية ضمن فرع من فروع هذا النسق، دون استحضارها جميعاً، وبخاصة حينما يتعلّق الأمر بالأمة العربية التي تنشد واقعاً آخر بعد الكثير من النكسات والأزمات.
أتابع هذه الأيام حدث كأس العالم الذي يشغل الجزء الأكبر من البشرية على هذا الكوكب، وتلك الصورة المشرقة التي قدمتها قطر عن الشرق، وعن العالم العربي والإسلامي. ومع إعجابي الكبير بما قدمته من جهود، وما بذلته لتقدم هذه الصورة الإنسانية المشرقة للعالم المتعطش إلى الحرية والكرامة والتعايش والسلم، أعيد مناقشة مسألة جديدة قديمة في الوقت نفسه، ومرض فتاك يقضي على الأمم، ولا يزال ينخر جسم هذه الأمة.
هذا المرض هو الذي مثّله الناقد حسين حمودة بالمرايا المقعرة والمرايا المحدّبة في النقد الأدبي؛ حيث ينظر بعض المتشائمين من أبناء أمتنا بمنظارين، منظار يُكبرّ صورة كلّ ما هو آت من الغرب، ومنظار آخر يُصغّر كلّ ما هو آت من حضارتنا، بل ويشوهه ويُنقص منه.
من المؤسف حقاً أن ننخدع بوجود هذين المنظارين اللذين صنعهما الفكر الغربي المتطرّف نفسه، حيث الأفضلية للأبيض، والرقي والتقدّم للجنس الأوروبي، مقابل الهمجية، والتخلف، للإنسان في العالم الثالث كما يرونه بمنظارهم. وهذه الخدعة القديمة انتقدها بعض الأوروبيين أنفسهم، ولك أن تعود إلى كلمة رئيس "فيفا" جياني إنفانتينو، قبل انطلاق المونديال لتدرك حجم هذا المرض وخطورته.
نحن لا نؤمن بقدراتنا، ولا نشجع بعضنا، ونكتفي بمعرفة أنّ هذا العمل أو ذاك من صناعة أمتنا لنحكم عليه بالفشل
نحن لا نؤمن بقدراتنا، ولا نشجع بعضنا، ونكتفي بمعرفة أنّ هذا العمل أو ذاك من صناعة أمتنا لنحكم عليه بالفشل، وندعم التشهير بعدم أهليته وارتقائه إلى مستوى ما يوجد عند غيرنا.
هذا المرض لم يظهر في الرياضة وكأس العالم الأول الذي يُنظَّم على الأرض العربية الإسلامية فحسب، بل هو مرض حضاري من الأمراض التي تُضعف الهمم، وتُفسد العزائم، وتفشل نهضة الأمم، وتُسهم في بروز إشكالات عميقة، منها التفوّق الغربي في الصناعة والعلوم والرياضة، ومشكل هجرة الأدمغة وغيرها، ويوازيه في المقابل تخلُّف، وإهمال، وإقصاء، للطاقات والجهود.
عندما كنت في السنة الأخيرة من سنوات الإجازة (البكالوريوس) بالجامعة، أحببت موضوع لغة الجسد، وكنت مهتماً بدور هذه اللغة في التواصل الإنساني، فاخترت أن أكتب فيه بحث التخرج، استعنت بأحد أفراد عائلتي، وهو يشتغل في الصحافة خارج المغرب، فزوّدني بعدد مهم من الكتب في لغة الجسد لا يتوفر في مكتباتنا المغربية. بعدما توصّلت لها، كتبت تقريراً مفصلاً في الموضوع، وحرّرته في الحاسوب معتمداً على خبرتي في صناعة الملصقات، وتصفيف الكتب، واستعمال الحاسوب، واعتمدت في تحريره على أجمل الخطوط، ثم طبعته وقدمته للأستاذ الذي سيشرف على بحثي. في الحصة التالية التقينا به، وكنت سعيداً بما أنجزته، وانتظرت أن يحفزني على مواصلة ذلك العمل، لكن تفاجأت برميه لتلك الصفحات أمام زملائي الذين يشرف عليهم كذلك، قائلاً بصوت عالٍ: طبَعْتَه من موقع إلكتروني وجئتَ به...
صبرت على كلّ تلك المعاناة، وواصلت البحث في التواصل ولغة الجسد، درست فيه عدداً من الإشارات في مواقف مختلفة لكثير من مشاهير السياسة والرياضة، ثم تفاجأت ثانية بأنّ نقطة بحثي هي آخر نقطة في معدلات البحوث بالجامعة، تواصلت مع المشرف عشية الإعلان عن النتائج فقام بحظري... فعلاً إنه مرض فتاك.