مِنْ "بِيلْماونْ" إِلى الهَالْوين
مصطفى العادل
أتابع في مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من المنشورات حول ظاهرة "بُوجْلُّودْ" المعروفة باسم "بِيْلْماوْنْ" في اللغة والثقافة الأمازيغيتين؛ والتي تتزامن مع العيد الأضحى المبارك من كل سنة. هذه العادة التقليدية التي كبِرنا معها في قُرانا وقبائلنا الأمازيغية، وضحكنا بسببها أحيانا بقدر حبّنا واشتياقنا لها أحيانا أخرى.
فقد كانت هذه العادة العريقة وسيلة للتّسلية، والفرح، والاحتفال كذلك، وكانت من جانب آخر أداةً لجمع اللحوم من العائلات وإقامة احتفال كبير في القبيلة يحضره الجميع، فلم يكن في ذلك ما يتعارض مع العقائد والأخلاق والعادات التي نشأنا عليها وآمنا بها.
واليوم، إذ ينتقد البعض هذه الظاهرة، ويتجاوز بعضهم الآخرَ النقد إلى التّكفير والدخول في مسألة الإلحاد والشيطنة، فإننا نحبّ أن نشير إلى مسألة مهمة مفادها أن عادة "بِيْلْمَاوْنْ" لم تكن تعتمد على تغيير صور الوجوه وتشويهها لتبدو بشِعة ومخيفة كما هي متداولة اليوم، وإنما يتمّ الاكتفاء باعتماد جلود الأضاحي في اللباس، وتقديم بعض العروض الفكاهية، والتجول بين الأحياء وأزقة القبيلة لإضحاك الناس، والأطفال بالخصوص، والاحتفال معهم بالعيد. بينما تحولت في صورتها المتداولة اليوم إلى احتفالات ومهرجانات تشبه إلى حد كبير احتفالات غيرنا في عيد الهالوين المشهور.
لم تعد ظاهرة "بِيْلْمَاوْنْ" اليومَ تبشّر بالخير، فوجوه عدد كبير من الذين يقدمون هذه العروض يتم تشويهها عمدا لتشبه أوجه الشياطين والأرواح الشريرة في صورها المعروضة في كثير من الأفلام. وعلى عكس ما تُقدّمه هذه العادة قديما من قيم التآزر، والفرح، وصلة الرحم، والتعاون، أصبحت اليومَ تشكّل وجها آخرَ من أوجه التخويف، والترهيب، وصناعة الفزع في أوساطِ الأفراد والمجتمعات.
لم أكن أحب الدخول في نقاشات تافهة حول ما هو حلال وما هو حرام، وهل يجوز أم لا يجوز، بل آمنت بأنه ينبغي أن نسأل عن الكيفية والصورة التي يَسعَد فيها هذا الإنسان الشقي بغلاء المعيشة
لا شك أن مشروعَ مسخ الثقافة المغربية العريقة السمحة، وعجنها، وإعادة إخراجها في هذا الوجه البشِعِ جزء من مشروعٍ تخريبيٍّ ضخمٍ يستهدف الأجيال القادمة، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يُبنى نقدنا لهذه الظواهر المعاصرة، علينا أن نحتكم إلى معيار سعادة الإنسان وشقائه، وإلى ضمان سعادة الأجيال القادمة.
قد لا نستطيع إقناع الناس بخطورة هذا التقليد في صورته الحديثة إذا أقحمنا أنفسنا في التكفير، وتصنيف الناس، وتداول الموضوع ضمن خانة الإلحاد والجاهلية وغيرها. لكننا في المقابل يمكن أن نُنبِّه الناس إلى انحراف هذا التقليد عن أهدافه النبيلة؛ من السعادة إلى الشقاء، ومن الاطمئنان والفرح إلى الترهيب والفزع. وعلى أولئك الذين يدافعون عن هذا التقليد، ويواجهون منشورات تكفيره، وتصنيفه ضمن العادات الجاهلية، إدراك الفرق بين ماضي "بيلماون" وحاضرِه، والوعي بخطورة التغيير الذي تعرض له، والانحراف الذي شوّهه في صورته المعاصرة، فأعاد نسجه وصياغته على شاكلة ما نراه في الهالوين، وصور الأشرار والشياطين المختبئة وراء جلود الأضاحي.
أنا شخصيا لم أكن أحبُّ يوما هذا التقليد، ولم أفرح يوما به أو أُضيِّع وقتي في متابعته، والحضور فيه، فمن طبائعي الشخصية أنَّني أكره الفُكاهةَ والمسرح والكوميديا وكثرة الضحك، لكنني أعرف الكثير من الناس ممن ينتظرون "بِيلْمَاوْنْ" بفارغ الصبر، والعيد عندهم لا تكتمل فرحته إلا بالحضور في حفل هذا التقليد، والضحك أثناء متابعة عروضه.
ولهذا لم أكن أحب الدخول في نقاشات تافهة حول ما هو حلال وما هو حرام، وهل يجوز أم لا يجوز، بل آمنت بأنه ينبغي أن نسأل عن الكيفية والصورة التي يَسعَد فيها هذا الإنسان الشقي بغلاء المعيشة، وارتفاع الأسعار، وتزايد ظاهرة الجفاف، واستفحال ظاهرة الأمية والجهل والفقر والحاجة. ينبغي أن نسأل عن سبل اطمئنانه وسلامه عوض كل هذه البشاعة والخوف والرعب الذي نراه كل يوم في محيطنا، ونسمعه ونقرأه ونشاهده ونعيشه.
لا نحتاج إلى تقليد "بيلماون" وحدَه إذا كان همه إسعاد الإنسان، بل علينا أن نخلق العديد من التقاليد والعادات من أجل الإنسان، علينا أن نبدِع في صناعة ثقافة السلام أكثر مما يبدع غيرنا في هدم السلام والأمن وصناعة الحرب والعنف والقلق والفزع.