في الرِّحلةِ الميمونة إلى القرية الميمونيّة (4)
مصطفى العادل
يقترب موعد الملتقى يوماً بعد يوم، فيزداد الفرح بلقاء الأحباب المنتظر، تزول المتاعب وتُطوى المسافات وأنا أُذكّر نفسي بأنني سأسافر من أجل العلم والمحبة، سأرحل بعيداً لألتحق بالشباب الذين يقضون أوقاتهم في طلب العلم وينشأون في عبادة الله، كل تلك المعاني التي تجسّدت في أحاديث طلب العلم والعبادة وجوائز الشباب عند الله تحضرني وأنا أحاول ألّا يتسرّب إليها شيء من النفس والشيطان فيفسدها.
لا أسعد دوماً بالمشاركة في الفعاليات العلمية، وكثيراً ما أصبت بالإحباط بعد الحضور في بعض الملتقيات والندوات، وقررت في أحيان أخرى الصوم عن تلك المشاركات لأسباب كثيرة.
أحب التفكير دائماً بشكل مغاير، وأحب أن أعبّر بكل حرية عما أراه مناسباً وإن اختلفت مع كل المحاضِرين، يغضب بعضهم أحياناً لأنني لا أغنِّي على هواه، ولا أؤيد مذهبه، وربما لأنني أُقحم نفسي في صفّ النقاد الذين لا يخضعون لقواعد المذاهب وإطاراتها الضيقة. لقد شعرت في كثير من الندوات بالضيق والحيف من بعضهم وكأنني أمارس الإجرام في مجال البحث العلمي، ومنهم من أخرج اهتماماتي وما كنت ألقيه في مداخلاتي من دائرة البحث العلمي، فيزداد نقدي، وتضعف معارضتي لما يسمونه أصلاً البحث العلمي الأكاديمي، تساءلت مراراً، أليس الحديث عن آية من القرآن أو عن حكمة بليغة بأفضل من عشرات الكتب في الكلام الفارغ والرموز التي لا فائدة منها، ومن عشرات الدواوين التافهة والروايات العابثة التي لا تقدم للإنسان شيئاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة؟
كنت أشارك أحياناً في بعض الجامعات، فلا أحتفظ بصورة من الفعالية، لا لشيء سوى أنني أحب أن أنسى بسرعة أنني شاركت فيها أصلاً.
استمرّ هذا الشعور منذ أن بدأت المشاركة في الفعاليات قبل خمس سنوات تقريباً، وكنت أشك أحياناً في كوني فعلاً أكتب شيئاً ذا صلة بالبحث العلمي. وفي الوقت نفسه لا أرتاح لما يقوله الحداثيون الذين يُزعجهم قول "بسم الله" في بداية المداخلة، وقول "الحمد لله" أو "أستغفر الله" في نهايتها، ولم أكن أطمئن ولو للحظة للذين يُجرّدون البحث العلمي من كل ما له علاقة بالله والدين والإسلام. بينما اقتربت من المشاريع الفكرية التي انتقدت العولمة الفكرية وآمنت بالاختلاف والنسبية، ودعَّمت خصوصيات حضارتنا الدينية والثقافية في البحث العلمي. ربما اخترتُ الكتابةَ في مجال النقد والإبستمولوجيا لهذا السبب، كنت خلال فترة طويلة في الحاجة إلى أرضية أستند إليها وأبني في ضوئها ما أؤمن به، ولم أكن أخشى أن يغضب مني فلان أو أن يُصنِّفَني عِلّان، لأنني في نهاية المطاف لا أريد أن أُقنع إلا نفسي، ولا أريد أن أتقرّب إلا من نفسي.
كنت خلال فترة طويلة في الحاجة إلى أرضية أستند إليها وأبني في ضوئها ما أؤمن به، ولم أكن أخشى أن يغضب مني فلان أو أن يُصنِّفَني عِلّان
صرّحت كثيراً في صفحتي بأنني لا أفعل شيئاً من أجل محاباة أحد، ولا أريد أن أنضمّ إلى المريدين الذين يتخذون لهم شيوخاً في المؤسسات والجامعات على حساب كرامتهم، وإنما أتقرّب إلى أساتذتي بالعلم والاحترام وطلب المشورة والتوجيه، وطلب العون في أمور العلم، ثم أُغلق الأبواب بكل يُسر كلما شعرت أن خطوتي قد تُفهم بشكل خاطئ، وقد تجنّبت طَرْقَ الكثير من الأبواب لعلمي المسبق بعدم جدواها.
أحببتُ الكتب التي اهتمت بالقرآن، والتكامل بين المعارف، والتي انتقدت الحداثة الغربية وأثرها في معارفنا المعاصرة، وكنت أشعر باطمئنان كبير لأنني أجد فيها أحياناً ما يتفق مع تصوراتي وقناعاتي.
عندما اطّلعت أول الأمر على كتابات أستاذنا محمد بازي، شعرت بشيء ما يُحرّك مشاعري ويوقد قلبي من جديد، وكلما اطّلعت أكثر على كتاباته ازداد يقيني بأن ما كنت أفكّر فيه لم يكن غريباً إلا بسبب آثار نِحلة الغالب (فكرة ابن خلدون رحمه الله) التي شوّهت حياتنا المعاصرة، وقد أصبحت بعد اطلاعي الأولي على بعض الأعمال أُصرّح جهراً وجرأة بما أؤمن به.
أحببت الأستاذ بازي، لأن كلماته تخاطب قلبي، أشعر بصدق لا مثيل له في ما يكتب، غيرتُ الكثيرَ من الأفكار، وأصبحتِ الكثير من المعالم جليَّة أمامي بعد قراءتي لثلاثيته البليغة الموسومة بـ(البلاغة الكبرى).
أدركت وأنا أستعدّ للملتقى أنه لن يكون مجرد ملتقى علمي، وأنني لن أجتمع بباحثين كما يحدث في الملتقيات العلمية، فلا شك أن تلك المعاني البليغة ستكون عنوان الملتقى قبل أي شيء، فكنت أشعر من وقت لآخر بسعادة كبيرة تغمر قلبي.
يُفترض أن أسافر من جبال "آيت بوكماز" إلى "مراكش" عبر "دمنات"، ومن "مراكش" إلى "أغادير"، لكنني اخترت السفر إلى "أزيلال" ثم إلى "بني ملال" لأعود إلى "مراكش" بعد ذلك. لقد تضاعفت المسافة كما يراها الناظر بمنظار سطحي، بينما شعرت بأن تلك المسافة قد طُويت لأنني اخترت ذلك السبيل لأرافق أصدقائي الباحثين ممن يحملون هم التأويليات الجديدة فننطلق جماعة من "بني ملال" عروس الأطلس.
انطلقنا ليلاً ونحن ستة أفراد، معظم الباحثين جمعتني بهم أعمال جماعية وندوات سابقة عن بعد، ودام تواصلنا لأكثر من ثلاث سنوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي دون أن نلتقي يوماً، فكان للقاء أكثر من معنى، وكانت رحلتي تلك من أجمل الرحلات التي لن تمحى من الذاكرة، ذلك أنها جمعت بين العلم والمحبة الصادقة الخالصة.