محمد صبحي وعصر التفاهة

27 يوليو 2024
+ الخط -

في لقاء مع حمدي قنديل على "قناة صدى البلد"، أطلق محمد صبحي سيلًا من الآراء العجيبة التي تتبنى النسخة الأردأ من "نظرية المؤامرة"؛ وترى في كل ما يحصل مخططًا صهيونيًا واضحًا متضمنًا في "بروتوكولات حكماء صهيون" لقتل مليارات من البشر عن طريق اللقاحات والتحكم في الظواهر الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات والأوبئة، بالإضافة إلى إخفاء الحقائق والمعارف الصحيحة. وفي هذا اللقاء، رأى صبحي أننا نعيش في "عصر التفاهة"، وهو ما يذكِرنا بحديث الفيلسوف الكندي آلان دونو عن "نظام التفاهة" السائد في عالمنا المعاصر، لكن ما لم ينتبه أو يستطع أن ينتبه إليه صبحي هو أن آراءه تجسد التفاهة المذكورة أكثر مما تشكل كشفًا أو نقدًا لها. وإذا كانت "الكاميرات مش بتروح غير للتفاهات"، كما يعتقد صبحي، فقد قدم صبحي في اللقاء المذكور وجبة دسمةً جعلته موضوعًا مناسبًا للكاميرا أو الكاميرات التي صورت ذلك اللقاء.

من سمات تفاهة العصر أو النظام غياب أو تغييب العقل والعقلانية، وحضور الخرافات والقصص الخيالية أو المتخيلة والسرد العاطفي الانفعالي. وقد كان راشد عيسى محقًّا حين عنون مقالته عن آراء صبحي المذكورة ﺑـ"خرافات محمد صبحي". والمدهش في هذه الخرافات ليس إيمان صبحي بها فحسب، بل، أيضًا، الثقة الكبيرة التي يبديها حين يصرح بها، وما يبديه من استهزاء ساخر أو سخرية مستهزئة تجاه من يخالفونه الرأي في هذا الخصوص. وليس واضحًا مصدر هذه الثقة أو الوثوقية الدوغمائية التي أبداها في الترويج للأوهام المذكورة. ومن المرجح أنها نابعة من مزيجٍ من الجهل والتجاهل والرغبوية والكذب (الأبيض). وينبغي التشديد على أنه ليس ثمة علاقة ضرورية بين مدى إبداع صبحي أو غيره من الفنانين (والمفكرين والفلاسفة) ومدى سطحية المعرفة الموهومة الواهمة التي قدمها في لقائه الأخير. فحتى أعظم الفنانين (والمفكرين والفلاسفة والعلماء) يمكن أن يكون لديهم أخطاؤهم وخطاياهم، أوهامهم وخرافاتهم، تفاهاتهم وتسطيحاتهم و"هرتلاتهم". والتاريخ حافل بالأمثلة الكثيرة والغزيرة على ذلك.

من حيث المبدأ، من حق صبحي وغيره الاعتقاد بما يشاؤون من حقائق أو أوهام، وأن يعبروا عن اعتقاداتهم، بكل الطرق المشروعة. فمن دون التسامح مع الخطأ، لن يكون هناك معنى للتسامح والحقيقة، أو لن يكون هناك تسامح أو حقيقة، في المجال العام، على الإطلاق.

لكن الحق المذكور لا ينفي حق آخرين في انتقاد تلك الاعتقادات، وفي وصفها بالأوهام أو الأكاذيب أو الخزعبلات، وفي مناقشة المسؤولية الأخلاقية لأقوال محمد صبحي بوصفه شخصية عامةً يتأثر كثيرون بآرائها التي تبدو مضللة ومهمةً لدرجة اضطرار المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية (NRIAG) بمصر إلى الرد على ادعائه أن البحوث العلمية قد أثبتت أن الأرض ليست كرويةً! وطريفٌ أن يتضمن تسطيح صبحي للمعرفة تسطيحًا للكرة الأرضية أو نفيًا لكرويتها. وفي العودة إلى سمات نظام أو عصر التفاهة، تنبغي الإشارة إلى أنه يتسم باستبعاد القيم أو التضحية بالأخلاق لصالح المصالح الفردية أو الفردانية، المادية والمعنوية.

ومن الواضح أن صبحي حظي ببعض المصالح، نتيجةً لتصريحاته الغريبة والعجيبة، لكن من الواضح أيضًا أن الثمن المدفوع لقاء ذلك كان كبيرًا أيضًا، معرفيًّا وأخلاقيًّا. فالمعارف الزائفة التي يروج صبحي لها تضلل أشخاصًا كثرًا أو تزيد من ضلالهم، وتسهم في منعهم من تشخيص مشاكل واقعهم، ومن ثم تجعلهم عاجزين عن مواجهتها والتغلب عليها.

وفي تصريحاته الأخيرة، تجاوز صبحي حقه المبدئي في الاعتقاد بما يراه مناسبًا والتعبير عنه، لأن تعبيره تضمن إنكارًا لحقوق الآخرين وزعمًا بامتلاك القدرة على تنصيب من هم "مندوبو ربنا الحقيقيون". فمن حيث المبدأ، المشكلة الأساسية مع المحافظين وغير المحافظين، ليست معرفيةً، ولا تكمن في اعتقادهم بهذا الوهم أو الخطأ أو ذاك. وإنما تكمن، خصوصًا أو تحديدًا، في محاولة فرض اعتقاداتهم على الآخرين. وهنا، تحديدًا، ينبغي أن يكون الحد الأساسي، وربما الوحيد، للتسامح. فلا تسامح مع اللاتسامح، حين يكون هذا الأخير قادرًا على التحول إلى فعل يحد من حريات الآخرين ويحرمهم حقوقهم.

المشكلة الأساسية مع المحافظين وغير المحافظين، ليست معرفيةً، ولا تكمن في اعتقادهم بهذا الوهم أو الخطأ أو ذاك. وإنما تكمن، خصوصًا أو تحديدًا، في محاولة فرض اعتقاداتهم على الآخرين

فمن ناحية أولى، يسخر صبحي من الرجال الذين يلبسون الحلق (الأقراط)، وينكر أن يكون ذلك أمرًا خاصًّا بهم وجزءًا من حريتهم الشخصية، ويشدد على أنه لا يحق لهم ارتداء الحلق في المجال العام، وأنه لن يحترم من يفعل ذلك قطعًا. وحجته الرئيسة هنا أن "ثقافة لبس الحلق ليست من بلدنا ولا عروبتنا ولا إسلامنا ولا ديننا ولا مسيحيتنا...". والتفسير الوحيد لارتداء الحلق هو أن المتآمرين علينا قد نجحوا في تحقيق غايتهم. الطريف أن ما قاله صبحي عن الحلق يمكن أن ينطبق حرفيًّا على كل ما كان يرتديه أثناء تصوير اللقاء المذكور، من البدلة الرسمية، المؤلفة من بنطلون وقميص وجاكيت وكرافته، إلى الجوربين والحذاء، وصولًا إلى النظارات. فكل هذه الأشياء ليست، أصلًا، من بلدنا ولا من عروبتنا ولا من إسلامنا ولا من مسيحيتنا. وبالتأكيد، هذا لا يعيبها بالضرورة. وما قاله صبحي عن لبس الحلق سبق أن قاله كثيرون سابقًا وفي زمنٍ سابقٍ عن لبس البنطلون، على سبيل المثال والتخصيص. فالانتقال من لبس السروال/السروال التقليدي إلى لبس البنطلونات ترافق مع مقاومة اجتماعية محافظة عنيدة عمومًا. واستخدمت تلك المقاومة حجة محمد صبحي ضد لبس الحلق. وتضمنت، أيضًا، سخريةً ممن يلبسون البناطلين فيظهرون تقاسيم أرجلهم وأفخاذهم وخلفياتهم. وربما كان يهم صبحي أن يعرف أن هناك الكثير من الفتاوى الصادرة عن "أهل الدين" و"مندوبي ربنا" التي تحرِّم لبس الكرافات والبابيون (ربطات العنق عمومًا).

من حق صبحي وغيره عدم لبس الحلق وانتقاد من يلبسون الحلق، لكن صبحي تجاوز هذا الحق حين أنكر حق الآخرين في أن يلبسوا الحلق. والإقرار بحق الآخر لا يعني الإقرار بأنه على حق.

ولم يتوقف تهور صبحي، في تصريحاته، عند حد إنكار حقوق الآخرين الأولية والأساسية، بل تمادى إلى درجة تجرُئه على تحديد من هم "مندوبو ربنا الحقيقيون" ومن هم "مندوبو ربنا الزائفون". وليس واضحًا من أين استمد، هو شخصيًّا، هذه المشروعية وتلك القدرة على القيام بهذا التمييز الخطير، وتحديد من هم "أهل الدين"، ومن هم "جيرانه". والمفارقة الطريفة أنه سمح لنفسه بتحديد من هم "مندوبو ربنا" و"أهل الدين"، ومن هم ليسوا كذلك، على الرغم من أنه لا يعد نفسه من أهل الدين ومندوبي ربنا. وقد رفض صبحي السماح لغير أهل الدين ومندوبي ربنا بالظهور في التلفزيون والحديث في أمور الدين، وسمى حديثهم "هرتلة"، أي "كلامًا فارغًا خاليًا من المعنى". وعلى الرغم من أنه رفض السماح "لكل من هب ودبَّ" بالحديث في أمور الدين، فقد سمح لنفسه بأن يهب ويدبَّ ويتحدث في هذا الخصوص، ويوزع شهادات المندوبية الإلهية وكأنه (خليفة) الله/ربنا على الأرض. والمفارقة الطريفة والمحزنة والمخزية أيضًا، أنه فعل ما يفعله رجال دين ومتدينون كثر، حين يسمحون لأنفسهم ﺑ "الهرتلة" أو الحديث أو "الفتوى" وإصدار الاحكام القطعية في خصوص أعمق المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية والجيولوجية والطبية والفيزيائية... إلخ، من دون أن يكونوا من "أهل ربنا" أو "المندوبين عنه" والمتخصصين، في هذه المسائل، ومن ثم يرفضون حديث أي شخص عن الدين أو عن دينه، لأنهم لا يرون أنه من أهل الدين"! ومرة أخرى ينبغي التذكير بأن خطاب صبحي الخشبي والأجوف واللغو أو ما يسميه "الهرتلة" هو من سمات نظام أو عصر التفاهة الذي يتسم بالدفع أو التحريض الأيديولوجي نحو تبني موقفٍ قطبيٍّ حديٍّ وتكوين استقطابات تناحرية في خصوص كل المسائل، بغض النظر عن مدى (عدم) امتلاك الشخص القدرة على إصدار الحكم في الكثير من تلك المسائل، أو الرغبة في ذلك. وهذا ما فعله صبحي، الذي أصدر أحكامًا في كل الميادين التي سُئل عنها، وما أكثرها! وهذا هو أحد أهم العوامل التي أوقعته في أخطاء كثيرة، وربما في خطايا كبيرةٍ. ووفقًا لديكارت، يحدث الخطأ عندما تتجاوز الإرادة، أو الرغبة في الحكم المعطيات المتاحة للعقل والإدراك. ومن الواضح أن تجاوز صبحي، أمرٌ واضحٌ بمعنى ما، وأمرٌ ضروريٌّ بمعنى آخر.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".