في نقد الهويات المجروحة
معروفٌ الاتصال الوثيق بين الفلسفة والتفكير النظري، ولعلّ الربط بين الفلسفة والمفاهيم هو أحد تجسيدات ذلك الاتصال. وربّما كان تعريف جيل دولوز الفلسفة بأنّها "إبداعٌ أو خلقٌ للمفاهيم" أحد أكثر التعريفات السائدة عن الفلسفة في الوقت الراهن. وإلى عهدٍ قريبٍ، وقبل الهيمنة المتزايدة للفلسفة التحليلية الأنكلوسكسونية، كان التفكير الفلسفي ينأى بنفسه، قدر المستطاع، عن تقديم نفسه عن طريق الأمثلة العينية والجزئية. وقد تعرّض الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون للانتقاد أحيانًا، بدعوى أنّه يستخدم كثيرًا الأمثلة العينية من الواقع في توضيح أفكاره والتدليل عليها. فالأمثلة قاصرة عن التعبير الدقيق عن الأفكار، ليس لأنّها فقيرة المضامين، ولا تتضمّن ما يُراد التعبير عنه، على العكس من ذلك تمامًا، بل لأنّها مُفرطة الغنى، وتتضمّن أكثر بكثير ممّا يُراد تقديمه. وبسبب ذلك الغنى، يختلط حابل الفكرة المُراد مناقشتها بنوابل أفكارٍ وتفاصيل كثيرةٍ ليست موضع اهتمامٍ ومناقشةٍ في سياقٍ ما. وسبق لهيغل أن بيَّن، بوضوحٍ، أنّ المفهوم (النظري) المجرَّد (مثل مفاهيم الإنسان، والشجرة، والحياة) أفقر بكثير ممّن أو ممّا يُحيل عليه.
كنت أعي ذلك عندما حاولت، في تدوينتي السابقة، شرح فكرة الهوية المجروحة بمثالٍ مُستقى من حادثةٍ كنت شاهدًا عليها. لكنّني رأيت، مثل ما رأى برغسون في الردّ على نقاده أو منتقديه، أنّ ضرب الأمثلة لم يكن على حساب الشرح النظري أو المفاهيمي، بل كان إضافةً وإغناءً له. والحادثة المذكورة، مضرب المثل، تبيِّن باختصار كيفيّة اختزال الهوية المجروحة لذاتها، أحيانًا كثيرةً، في فكرة الضحية، فتنكر مسؤوليتها، وتعجز عن إدراك كلّ أبعاد ذلك الإنكار الذي يتضمّن، بدوره، إنكارًا للذاتية الفاعلة أو الفاعلية الذاتية لتلك الهوية. وقد يكون الإنكار الأخير أسوأ من كلّ ما تزعم، أو تعتقد، بعض الهويات المجروحة أنّها تعاني منه وتناضل من أجل التخلّص منه.
وبالتأكيد، ليس متوقعًا أن تتقبّل أو حتى تقبل الهُويّات المجروحة مثل هذا النقد/ الانتقاد أو غيره، بل إنّ حصول ذلك التقبّل أو القبول يمكن أن يمسّ مصداقية الأطروحة القائلة إنّ الهُويّة المجروحة عديمة أو عادمة للمسؤولية الذاتية، دائمًا وبالضرورة، و/ أو أن يبيِّن أنّ الهُويّة المجروحة يمكن أن تكون أو أن تصبح أقرب إلى الكوجيتو المجروح، ولا تتصرّف، في بعض الأحيان أو دائمًا، بوصفها هُويّةً مجروحةً. وعلى هذا الأساس، فإنّ الاعتراض على مضمون النقد/ الانتقاد المذكور يمكن أن يكون قرينةً إضافيةً على الهُويّة المجروحة للمعترض ورفضه (شبه) المطلق، بوصفه كذلك، لأن يكون ذاتًا مسؤولةً تقرّ أو تعترف، عمليًّا ونظريًّا، بمسؤوليتها، ومن ثم بذاتيتها، أو تتبنّى، هذه الذاتية وتلك المسؤولية. وانطلاقًا من ذلك، ومن حيث المبدأ، قد لا يكون ضروريًّا أخذ مثل ذلك الاعتراض في الحسبان، لأنّ وجوده يثبت، على الأرجح، صحة أو أحقيّة ما يعترض عليه أو يعارضه، بوصفه خطأ أو خطيئةً.
ثمّة استحالة، غالبًا على الأقل، في وجود نقدٍ داخليٍّ للهُويّات المجروحة
يحيل الحديث عن الهويات المجروحة على بنيةٍ أو منظومةٍ أكثر ممّا يحيل على وعيٍ واعٍ ومريدٍ وقاصدٍ. وفي كلّ الأحوال، الهُويّات هنا ليست كالأعمال، ومن ثم، لا علاقة لها أو للحكم عليها بالنيَّات. والقول "إن هذه الهوية المجروحة أو تلك لم تكن تنكر مسؤوليتها، ومن ثم ذاتيتها"، ليس مهمًّا كثيرًا، فالعبرة هنا بالأفعال المُتحقّقة، وليس بالنيات والمشاعر المُضمرة. ويمكن لأفعالنا أن تعبّر عنّا، حتى عندما نظن أو يُظن أنّنا لا نقصد ذلك التعبير. ويمكن تجريد معنى نظري ما من سياقٍ عملي ما، بغضّ النظر عن مقاصد الفاعلين ونيّاتهم. فالأمر لا يتعلّق بمحاكمةٍ أخلاقيةٍ أو دينيةٍ أو قانونيةٍ، وإنّما برؤيةٍ معرفيةٍ تتجاوز النيات والمقاصد الشعورية، وتحفر وتقرأ في البنية والمنظومة الفعلية للذوات/ الهُويات وما يحيط بها.
وفي عصرٍ سمّي، بحقٍّ أو من دونه، "عصر الهويات (المجروحة)"، وفي إطارِ سياسة الهُويّات المنتشرة، انتشارًا سرطانيًّا أحيانًا، من الشائع الاعتراض على أيّ نقدٍ (خارجيٍّ) لأي هُويّةٍ (مجروحةٍ). والاعتراض المبدئي يتمثّل في القول إنّ الهوية المُنتقَدة تعبِّر عن ثقافةٍ أو جماعةٍ ما، وينبغي احترام تلك الثقافة أو الجماعة، وعدم إطلاق الأحكام السلبية بحقّها، وإنّه لدى الهُويّة المجروحة ما يكفيها من المعاناة، وإنّ ما تحتاجه هو التضامن معها، وليس انتقادها أو حتى مجرّد نقدها. وربّما كان ضروريًّا في هذا السياق التشديد، مع إدوارد سعيد، على مبدأين أساسيين، في هذا الخصوص. يشدّد المبدأ الأوّل على أنّه "لا تضامن من دون نقد". وينتقد المبدأ الثاني ما يسميه إدوارد سعيد ﺑ"رطانة اللوم". فمن ناحيةٍ أولى، النقد ضروريٌّ حتى، أو خصوصًا، في حالة التضامن، بل يمكن للنقد ذاته أن يكون شكلًا من أشكال التضامن، بقدر ما يكون موضوعيًّا ومتوازنًا ومصيبًا ومنيرًا. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، ليس مناسبًا التنصّل الكامل من المسؤولية والاقتصار على إلقاء اللوم على الآخرين. ويمكن لرطانة اللوم، المقترنة بالمطالبة بالتضامن من دون نقد، أن تكون أسوأ من عقود الإذعان، وهي، في كلّ الأحوال، مُضادة للنزاهة المعرفية، والاستقامة الأخلاقية، والفائدة أو النجاعة البراغماتية أو العملية.
يبدو أنّ اللقاء بين النقد الداخلي والهوية المجروحة أشبه باللقاء بين الإنسان وموته الشخصي
إضافةً إلى الاعتراض المبدئي المذكور، ثمّة اعتراضٌ آخر، أقلّ مبدئيةً، لكنه ليس أقلّ شيوعًا في ذلك السياق، ويتمثّل في إنكار حقِّ أيّ طرفٍ خارجيٍّ في نقد هُويّةٍ (مجروحةٍ) ما. ووفقًا لذلك الاعتراض، ينبغي أو يحقّ للمرأة أو للنسويّة فقط أن تنقد أو تنتقد النساء أو النسويات. وكذلك الأمر في خصوص كلّ الهُويّات المجروحة. ما لا (يريد أن) ينتبه إليه متبنو ذلك الاعتراض أنّه ثمّة استحالة، غالبًا على الأقل، في وجود نقدٍ داخليٍّ للهُويّات المجروحة، وأنّ ممارسة الهُويّة المجروحة المنتظمة للنقد الذاتي المتوازن تعني أنّها ليست مجروحةً أصلًا، بالمعنى الموصوف والمذكور لتلك الهُويّة. فالنطاق الداخلي للهُويّة (المجروحة) متغيِّر ومائع بطريقةٍ تسمح باستبعاد كلّ نقدٍ وإقصائه إلى خارجٍ ما. فإذا نقد رجلٌ نساءً أو نسوياتٍ مُمثلات لهويةٍ مجروحةٍ، يمكن أن يقال له "ليس مناسبًا أو معقولًا قيامك بالنقد لأنك لست امرأة ولا نسويةً". فإذا قدّمت امرأةً مثل ذلك النقد، قيل لها "أنت مختلفة ولا تنتمين إلى الطرف المنقود، لأنك بيضاء أو غنية أو تحظين بامتيازاتٍ ما... إلخ". وفي كلّ الأحوال، يبدو أنّ اللقاء بين النقد الداخلي والهوية المجروحة أشبه باللقاء بين الإنسان وموته الشخصي. فكما قال أبيقور "عندما يوجد الموت لا يوجد الإنسان، وعندما يوجد الإنسان لا يوجد الموت، ومن المستحيل وجود الطرفين معًا وفي الوقت نفسه". وفي كلِّ الأحوال، من المفيد تذكّر الحكمة المنسوبة إلى علي بن أبي طالب "لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال" والتذكير بها في هذا السياق، لمواجهة سياسات الهوية التي تعطي حقوق قولٍ متمايزةٍ بناءً على هوية القائل، وتفرّط في التركيز على هوية القائل في تحديد مشروعية قوله ومعقوليته أو مقبوليته، وفهم معناه ودلالاته. فالحكمة "ضالة المؤمن (وغير المؤمن)"، أو ينبغي أن تكون كذلك، في كلّ الأحوال.
في تدوينتي الأولى التي ميَّزت فيها بين الكوجيتو المجروح والهُويّة المجروحة، وعدت بإعطاء مثالين على حالة إنكار المسؤولية لدى بعض "ممثلي الهويات أو الذوات المجروحة". وأظن أنّ تعدّد الأمثلة وتنوّعها يساعد بلورة الفكرة وإظهار شمولها وغناها وتنوّعها بعيدًا عن اختزالها واستنزافها في مجالٍ ضيقٍ واحدٍ، فضلًا عن إفقارها من خلال الشخصنة ضيقة الأفق. وبعد عرضي ومناقشتي، في تدوينتين، المثال الأوّل المتعلّق بالمجال (الثقافي) النسوي، سأتناول، في تدوينةٍ قادمةٍ، مثالًا نموذجيًّا آخر، لكن من المجال (الثقافي) السياسي. ويتعلّق المثال الأخير بالذات أو الهوية العربية/ السورية/ الفلسطينية/ اللبنانية المجروحة و/ أو المهزومة.