الفلسفة والنقد والتفكيك
النقدُ رؤية معياريةٌ ووصفيةٌ تمييزيةٌ لما ينبغي أن تكون أو لا تكون عليه الأمور، انطلاقًا من رؤيةٍ لماهية الحقيقة والخير والجمال. وتبدو العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والنقد قوّية وواضحةً، بحيث لا تكون هناك حاجة لشرحها أو إثباتها أو الجدال حولها. ولا يخلو أيّ عملٍ فلسفيٍّ من بعدٍ نقديٍّ لأفكار الآخرين. ولم يقدّم أفلاطون رؤيته الفلسفية إلّا انطلاقًا من حواراتٍ تُعرض فيها نقديًّا كلّ الأفكار المتداولة حول موضوعٍ ما. وهذا ما فعله في خصوص موضوع "التقوى" في محاورة "أوطيفرون"، وموضوع "العدالة" في محاورة "الجمهورية"، وموضوع "خلود النفس" في محاورة "فيدون"... إلخ. أمّا أرسطو فلم يكن يكتب نصًّا في أيِّ موضوعٍ إلا ويضمِّنه عرضًا نقديًّا للأفكار السابقة والسائدة في هذا الخصوص. وقد أعلن أنه لن يفعل ذلك في كتاب "المنطق"، لأنّه يستهل علمًا جديدًا لم يسبق لغيره أن بحث فيه.
وكان النقد رفيق الفلاسفة الدائم. وكيف لا يكون كذلك وهم يعلنون اختلافهم ورؤاهم المتمايزة ليس عن الكثير من الآراء الشعبية والمهيمنة، معرفيًّا ودينيًّا وسياسيًّا في المجال العام، فحسب، بل آراء غيرهم من الفلاسفة والمفكرين أيضًا. ولم يقتصر حضور النقد على كونه رفيقًا للفلسفة طوال مسيرتها، بل إنّ بعض الفلسفات تجلّت بوصفها نقدًا، بالدرجة الأولى، في أحيانٍ كثيرةً. ولعل المثال الأبرز والنموذجي الذي يمكن أن يخطر سريعًا على البال في هذا الخصوص هو فلسفة كانط النقدية التي تمثلت في الثالوث الشهير: "نقد العقل النظري"، "نقد العقل العملي"، "نقد ملكة الحكم".
لكن ليس نادرًا أن نُظِرَ إلى النقد، في الفلسفة وخارجها، "نظرةً نقديةٍ". وظهر ذلك، على سبيل المثال، في نقد مضمون النقد، في "نقد نقد العقل العربي" لجورج طرابيشي، الذي نقد فيه "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري. لكن النظرة النقدية للنقد كانت أحيانًا أكثر جذريةً ومبدئيةٍ، وتناولت فكرة النقد ذاتها، من حيث اعتقادها، الصريح أو الضمني، بزعم النقد/ الناقد امتلاكه السلطة الجديرة والقادرة على الحكم والبتِّ في أمر ما تنقده. ومن هنا ظهر التعارض بين رؤيةٍ تسعى إلى الفهم والبناء على ما نفهمه ورؤية تسعى إلى النقد والبناء على ما ننقده. وظهر ذلك، ظهورًا بارزًا ونموذجيًّا، في النقاشات التي دارت بين الرؤية الهيرمينوطيقية للفهم عند غادامر والرؤية الفلسفية للنقد عند هابرماس. ففي حين أنّ غادامر كان أقرب إلى أن يكون مع مبدأ "لكي تفهم، افهم قبل أن تسارع إلى النقد، وبغضِّ النظر عن النقد"، فإنّ فلسفة هابرماس كانت غالبًا أقرب إلى "انقد لكي تكون قادرًا على امتلاك الفهم الصحيح". وحاول ريكور، كعادته التواسط والتوسّط بين الطرفين، في هيرمينوطقاه النقدية، فجعل الفهم (المسبق) أساس كلّ نقد، والنقد مرحلة ضرورية وشرطًا لا غنى عنه للمرور من الفهم المسبق (الساذج) إلى الفهم الأفضل، البعد نقدي.
لا يقتصر حضور النقد على كونه رفيقًا للفلسفة طوال مسيرتها، بل إنّ بعض الفلسفات تجلّت بوصفها نقدًا، بالدرجة الأولى
وبدل مصطلح النقد، راج، منذ الربع الأخير من القرن العشرين، مصطلح التفكيك، وأصبح كثيرون يستخدمونه، ليس بدل مصطلح النقد فحسب، بل بالتضاد معه أيضًا. ويبدو ذلك معقولًا إذا أخذنا في الحسبان أنّ دريدا، ناحت كلمة التفكيك والمنظّر الفلسفي الأوّل والأكبر له، قد شدَّد على أنّ التفكيك ليس نقدًا، لا بالمعنى العام للكلمة ولا بالمعنى الكانطي لها. ورأى أنّ "التفكيك يتميّز عن النقد. فالنقد يعمل دومًا وفق ما سيتخذه من قراراتٍ فيما بعد، أو هو يعمل عن طريق محاكمة. أمّا التفكيك فلا يعتبر أنّ سلطة المحاكمة أو التقويم النقدي هي أعلى سلطة. إنّ التفكيك هو أيضًا تفكيك للنقد. وهذا لا يعني أنّنا نحطّ من قيمة كلّ نقدٍ أو كلِّ نزعةٍ نقدية، لكن يكفي أن نتذكر ما عنته سلطة النقد عبر التاريخ". يبدو مفهوم "تفكيك النقد"، معقولًا ومفيدًا، من الناحيتين النظرية المبدئية والعملية التطبيقية. لكن العكس (نقد التفكيك) يبدو معقولًا ومشروعًا وضروريًّا أيضًا. فمن دون نقد التفكيك، على الطريقة الكانطية مثلًا، وخصوصًا، سيبدو التفكيك وكأنّه المطلق الذي لا تخم له، والرؤية الأعلى التي لا علو بعدها. وينبغي للنقد، بالمعنى الكانطي، أن يبيّن معقولية وموضوعية ومشروعية التفكيك، وأن يبيّن، أيضًا، حدود هذه المعقولية وتلك الموضوعية والمشروعية. إضافةً إلى ذلك، يبدو أنّ التفكيك ذاته نقدًا، من حيث إنّه يتضمّن أحكامًا معرفيةً ومعياريةً حيال النقد: "النقد يتضمن محاكمة"، "النقد له قيمة وينبغي عدم الحط منها"، ... إلخ. وقد تضمنت الفلسفة التفكيكية نقدًا للهيرمينوطيقا، من خلال إظهارها لحدود الفهم وانتقادها لبعض الافتراضات التي تتضمنها تلك الهيرمينوطيقا وذلك الفهم. لكن ينبغي عدم تحويل ثناثيات"التفكيك والنقد"، "التفكيك والفهم"، "النقد والفهم" إلى مثنويات وتقابلات قطبية يقصي كلّ منها الآخر، ويتخارج معه تخارجًا كاملًا، ويبزّ كلّ طرف أو قطب الطرف أو القطب الثاني معياريًّا.
يمكن التقليل من أهمية نفي دريدا لأن يكون التفكيك نقدًا إذا علمنا أنّ دريدا لم يقتصر على ذلك النفي فحسب، بل قام بنفي أن يكون التفكيك كلّ شيءٍ أو أيّ شيءٍ تقريبًا. فوفقًا لدريدا، التفكيك ليس نقدًا، ولا هدمًا، ولا تحليلًا، ولا تركيبًا، ولا منهجًا أو رؤيةً منهجيةً، ولا ميتافيزيقا ... إلخ. وبمعزلٍ عن تلك التعريفات بالسلب، لم يقدّم دريدا، لفترةٍ طويلةٍ، أيّ تعريف بالإيجاب، للتفكيك، إلى أن عرَّفه بقولته الشهيرة "التفكيك هو العدالة".
ينبغي عدم تحويل ثناثيات "التفكيك والنقد"، "التفكيك والفهم"، "النقد والفهم" إلى مثنويات وتقابلات قطبية يقصي كل منها الآخر
وعلى الرغم من رفض دريدا لأن يُفهم التفكيك بأنه نقد، فقد رأى كثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور، أنّه يتضمن رؤيةً منهجيةً نقديةً. ولم يكن باستطاعة دريدا منع ذلك أو الاعتراض عليه كاملًا، لا من الناحية العملية ولا حتى من الناحية المبدئية والنظرية. فمن الناحية العملية، النص (المكتوب) مثل اليتيم، ليس له أب أو لم يعد له أب منذ لحظة ولادته ونشره. ويصبح بإمكان أيّ قارئ أن يتبناه ويمنحه المعنى الذي يراه مناسبًا، من دون وجود سلطةٍ قادرةٍ على ضبط هذه العملية وادّعاء المشروعية الحصرية في تقرير المعنى (غير) المشروع أو (غير) المقبول. ومن الناحية المبدئية والنظرية التفكيكية، ينبغي التذكير بأنّ التفكيك يرى أنّ النص، بوصفه نصًّا، مكتوبٌ بيدين اثنتين، تعطي كلّ منهما معنى مختلفًا عن المعنى الآخر، بل مناقضًا له أيضًا. وعلى هذا الأساس، أو انطلاقًا من ذلك، يمكن القول إنّ إحدى يديّ دريدا كانت تصرّ، في كتابتها، على أنّ التفكيك ليس نقدًا ولا منهجًا، في حين أنّ اليد الأخرى كانت تقدّم رؤية منهجيةً ونقديةً رأى كثيرون إمكان التنظير لها وتطبيقها في قراءاتهم للنصوص وتعاملهم مع الأفكار والقيم عمومًا.
ومن المفارقات الطريفة وذات الدلالة المهمّة هنا أنّه جرى استخدام التفكيك لصياغة ليس نقدًا واحدًا فحسب، بل صياغة أو تأسيس ما أسماه عبد الكريم الخطيبي ﺑـ"النقد المزدوج". وهذا يعني أنّ قدر التفكيك قد اختلف، جزئيًّا على الأقل، عن المصير الذي أراده له دريدا. وسأناقش، في تدوينتي القادمة، علاقة "النقد المزدوج" بالتفكيك، ومدى راهنيته وأهمية تطبيقه في الواقع والفكر العربي المعاصرين.