متلازمة الفراهيدي والخروج من عنق الزجاجة
نعيش اليوم موسم حصاد ما زرعه السابقون لنا من آثام ومفاسد، حاضر لا مناص منه، هُم مدينون استدانوا وانتفعوا، ونحن ورثنا عنهم عبء الالتزام بدفع فوائد الدين (بالمعنى المادي والمجازي). إن سلمنا جدلاً بضرورة حمل أوزارهم، وانعدام قدرتنا على إنتاج ما نلبس، وما نأكل، وما نشرب، وما نركب.. هل يمكننا على الأقل التكسّب من متلازماتنا النفسية؟
واقعنا يساعد إلى حدّ كبير على إنتاج متلازمات تحمل عنصر الفرادة والأصالة. يمكننا العودة (على سبيل التجربة) إلى "عقدة الخواجة" التي ابتدعها الموروث المصري، والتي يمكن تعريفها بشكل مُنمّق بأنها توصيف لحالة الفجوة الطبقية وانعدام التكافؤ، والذي يساعد على إنتاج أفراد من مستويات معيشية متدنية يتوقون لتقليد من هم أعلى منهم وأغنى منهم ماديًا. ويمكن تأصيل هذا المصطلح عبر ربطه مفاهيميًا بمقولة ابن خلدون "إن المغلوب مولع دائمًا بتقليد الغالب".
غير أنّ الشعب المصري بتاريخه العريق وتجاربه المتنوّعة وسليقة لسانه، أضاف لمعجمه مصطلحات أخرى كـ"البغددة" التي تشير لحالة الرفاهية الزائدة، والتي تعود في نشأتها إلى ماضٍ كانت فيه بغداد عاصمة الوفرة الاقتصادية والرخاء المعيشي. و"الصهينة" الكلمة ذميمة المعنى والتأصيل، والتي يشار بها للشخص قليل المروءة ومدّعي الصلاح بوصفه "متصهين". ونضيف أيضاً كلمة "حِوار" التي تبدلت دلالتها وباتت تعني "الكذب والمراوغة" وكأنما هي كلمة تحمل في طياتها نوعا من السخرية من واقع حال الساسة والمتحدثين في جلسات الحوار والتحوير.
لننتقل لنقطة أخرى في ذات الصدد: هل جربت يومًا الوقوع تحت تأثير متلازمة الفراهيدي؟ لا تبحث عنها في ويكيبيديا فهي غير موجودة.. هي نقطة أشار لها الدكتور أحمد خالد توفيق في أحد كتبه، حينما تحدث عن مؤسس بحور الشعر العربي، الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي كان يمتنع عن كتابة الشعر رغم أنه أحد أئمة الأدب واللغة وواضع علم العَرُوض.
الفراهيدي كان لديه القدرة على خلق النتاج الأدبي، ولا تنضوي حالته تحت مسمّى جلد الذات، وإنما هي ناجمة عن التقاء عنصرين هما حسّ الناقد والسعي للكمال
امتناع الفراهيدي عن كتابة الشعر يعود لعدم قدرته على تجاوز حاجز حسّ الناقد، حاجز ينبع من اتساع العلم والمعرفة؛ هو بالطبع يمتلك القدرة على الكتابة، إلا أنّ سعيه الدائم لخلق نص شعري متكامل يبقيه عاجزًا عن الاقتناع بنصوصه فيقول "ما يأتيني منه لا أرتضيه، وما أرتضيه منه لا يأتيني".
في أواخر شهر أكتوبر من العام الماضي، أجاز مجمع اللغة العربية في مصر استخدام كلمتي "فسبكة" و"استعباط" لوجود أصل عربي صريح لها. وإن كنا قادرين على النزول للشارع وتفصيح العامية لمَ لا نحاول العودة زمنيًا لإعادة قراءة التجارب والشواهد في ضوء تأصيل المسميات الأكاديمية؟ بدلاً من استيرادها هي الأخرى في معلّبات لا ندري كيفية استهلاكها.
الحالة التي أصابت الفراهيدي لا أدري إن كانت تنطبق عليها شروط المتلازمة، إلا أنها تستحق الدراسة أكاديميًا. فهي، حسب تقديري، ليست عقدة الكاتب أو متلازمة الصفحة البيضاء، إذ إنّ الفراهيدي كان لديه القدرة على خلق النتاج الأدبي، ولا تنضوي تحت مسمّى جلد الذات، وإنما هي ناجمة عن التقاء عنصرين هما حسّ الناقد والسعي للكمال.
وأخيراً، أودّ دعوة القارئ للدخول إلى محرّك البحث وكتابة "متلازمة زكي" ليجد المباهج في النتائج. هي متلازمة وراثية جينية، تعود تسميتها للباحثة المصرية الدكتورة مها زكي، المتخصّصة في مجال الوراثة الإكلينيكية والوراثة العصبية، والتي استطاعت مع فريق بحثي من مصر والهند والإمارات وأميركا والبرازيل اكتشاف مرض وراثي يصيب الطفل قبل الولادة، ويؤثر في اكتمال العين أو الكلى أو الكبد أو المخ، مما قد يصيب الطفل بإعاقة مدى الحياة، وهو ما استطاع الكشف العلمي الجديد لمتلازمة زكي أن يجد الجين المسبّب له... هي بارقة أمل تدعو للتفاؤل بما لدينا من مؤهلات قادرة على إخراجنا من عنق الزجاجة، وأعباء الأسبقين.