في مديح التكرار
إن كان التاريخ حقًا يعيد نفسه، أين هي نقطة الذروة التي استقام عندها الحال وبدأنا بعدها بالتعثّر؟ علينا إيجادها لاستقراء المستقبل ودحض ما قيل بأنّ شعوب المنطقة لا تتعلّم من تاريخها وشواهده المتكرّرة. وقد يكون التاريخ ممتدًا إلى درجة يستحيل معها ملاحظة نقاط الذروة، غير أنّ مجرّد طرح الفكرة قد يكون هو بحدّ ذاته محفّزًا للخوض في غمارها، فالإنسان كائن يمتلك آلية التفكير بما وراء المعرفي، والتي تمكنه من إعادة النظر في أفكاره وطروحاته، وصياغتها بأشكال مختلفة. قد يكون هذا التساؤل جزءا من حالة الشجون الفكري التي نعيشها اليوم بتأثير صدمة ما بعد الكارثة، وقد يكون عبارة عن تداع حر في جلسة على أريكة دكتور نفسي.
قد ينساق بنا التفكير نحو رؤية أكثر تعمّقًا في مفهوم التكرار، وملازمته لنا في تجلياته المختلفة، فالقلب يمضي نابضًا بتكرارية منتظمة، وحين يفقد انتظامه تتأثر الأعضاء الحيوية ويعتل الجسد. وأكاد أجزم أنّ كلّ ما يحيط بنا يخضع للتكرار بشكل أو بآخر، سواء على المدى القصير أو الطويل. العيش وسط دوامة من التكرارية قد يكون فكرة غرائبية بعض الشيء، ولكنه قدرنا المحتوم، والذي من المحتمل أن يكون مجرد حالة من العذاب المستمر كما في أسطورة سيزيف. هل الأقدار عبثية لهذه الدرجة؟ أليس للتكرار أي غاية وظيفية؟
في الطبيعة يظهر التكرار مرئيّاً بفعل العوامل التنموية والبيئية، فيعمل على تكوين أنماط ذات شكل تناظري، كالتي نراها في أوراق زهرة الأوركيد. وقد تكون الأنماط ذات شكل متعرّج، كالتي نراها حين تعصف الرياح في الصحراء لتتشكل بفعلها الكثبان الرملية ذات التموّجات المتكرّرة.
وفي سياق رؤية الإنسان للأنماط، تشير دراسة أجراها فريق بحثي من جامعة بنسلفانيا، إلى أنّ العقل يضحي بالتفاصيل في سبيل رؤية الصورة الكليّة، حيث إنّ قدرتنا على اكتشاف الأنماط قد تنبع جزئيًا من رغبة الدماغ في تمثيل الأشياء بأبسط طريقة ممكنة، بما يشير إلى أنّ البشر يمكنهم بالفعل اختزال العناصر المكوّنة للنمط من أجل إلقاء نظرة على الصورة الكبرى بشكلها العام والأسهل للفهم.
العيش وسط دوامة من التكرارية قد يكون فكرة غرائبية بعض الشيء، ولكنه قدرنا المحتوم
يشير الكاتب تشارلز دويج، في كتابه "قوة العادات"، إلى أنّ العادات بمختلف أنواعها كممارسة الرياضة والقراءة، هي تتشكل بفعل تكرار حلقي لثلاث خطوات، وهي: الإشارة المحفزة للدخول في الوضع التلقائي! والعادة التي يجب استخدامها، والفعل الروتيني الذي يمكن أن يكون جسديًا أو عقليًا أو عاطفيًا. والدماغ يبحث باستمرار عن طرق لتوفير وادخار الجهد. وباللجوء للعادة يتوقف عن التفكير في السلوكيات الأساسية، مثل المشي والأكل وقيادة المركبة، وبالتالي يتمكن من تكريس طاقته للاختراع والتطوير.
هذه التلقائية تعتمد على جزء من الدماغ يسمى "العقد القاعدية"، وهو الجزء المسؤول عن معالجة كيفية تقييم الأهداف والمخاطر، ويعالج الإشارات التي تؤثر على العواطف والدوافع، وله دور أساسي في التعلّم وتكوين العادات والتخطيط للمهام وتنفيذها.
ومن جهة أخرى، يوضح تشارلز دويج مدى التأثير الفيسيولوجي للعادات، إذ يشير إلى أنّ غريزة توظيف التكرار في تكوين العادات تسمح للدماغ بأن يكون فعّالاً ضمن مساحة مادية أصغر، وبالتالي يكون الرأس أصغر فتكون الولادة أسهل، وهو ما يساهم في تقليل احتمال تضرّر الجنين والأم عند الولادة.
قد يكون التكرار نعمة وهبنا الله إياها لإراحة العقل وتزويده بقدرة أكبر على الإدراك، إلا أنّ الإنسان وفي إطار ممارساته التهكمية نحو الطبيعة والفطرة، استطاع استغلال النمط كأداة لتعزيز الكراهية، وسلاح يستخدمه في معارك الانتماء، فتجد أنّ التكرار التوكيدي بات يستخدم بصور متعدّدة في الخطاب الإيديولوجي، لقولبة الآخر وترسيخ صورة نمطية عنه في ذهن المتلقي.
الغاية من التكرار والاعتياد هي ربما أن يألف الإنسان المسلّمات ولا ينشغل بالتفكير في تفاصيل ممارساته اليومية، وإنما يستعيض عنها بتوجيه أنظاره نحو ما هو أكثر اتساعًا وشمولية، ليخرج عن إطاره الفكري الضيق ويرى الصورة الكاملة ويستوعبها دون قوالب.