السؤال الممنوع في منزلنا
"بتحبّي ماما ولّا بابا؟". سؤال تعاهدنا أنا وزوجتي ألا نطرحه على ابنتنا، التي بلغت عامها الثاني لتعلن معه عن ثورتها الأولى وخروجها عن نطاق سنوات المهد والرضاعة.
هي اليوم تنتقل لمرحلة جديدة من مراحل الوعي، كل الكلمات التي تعبر إلى مسامعها تعود لتُنطق على لسانها، ولكن بطريقتها الخاصة، ليس تكراراً ببغائياً، معيارها في انتقاء الكلمات يعتمد على مدى سهولة نطقها ومدى تفاعلنا معها. هي الآن لا تستطيع إعادة توظيف الكلمات في عبارات مختلفة المعنى، ولكنها تمكنت من صياغة أسلوبها الخاص في التعبير، الذي لا يخلو من الصعوبة، حيث يظهر ذلك بشكل واضح حينما تقوم بتدعيم مفرداتها بتعابير حركية لإيصال الفكرة.
اللغة التي نستخدمها يومياً تُصبح مع التكرار أفكاراً واعتقادات تُحرك سلوكنا.
يسهل تبيان مدى تأثير اللغة على نموذج الطفل، فهو يمارس سلوكاً عدائياً حينما يردد كلمات عدائية المعنى -وقد لا تكون كذلك- ففي بعض الأحيان تجد أن الطفل يربط بين كلمة ومعنى مخالف لفحواها، كأن يعبر عن غضبه بنطق اسمه بنبرة تصاعدية، لأنه سابقاً كان قد سمع أحد والديه يناديه وهو غاضب -ولا عجب في ذلك- فالعقل يعني "الربط"، وقد اصطلح العرب على تسميته بهذا الاسم لكونه يعمل وفق آلية الربط بين السبب والنتيجة، وهذه الممارسة ليست حكراً على الأطفال.
للأسئلة دور مهم في تعليم الطفل، فهي تثير فضوله وتحفزه على معرفة المزيد، وكل إجابة هي باب آخر لاستلهام سؤال جديد، إنها سلسلة غير منقطعة تأخذ الطفل في عالم يتسع فيه إطاره المعرفي
ولأن ابنتنا في هذا العمر هي ذات قدرة عالية على التقاط الإشارات وبناء الروابط بينها، كان لا بد لنا أن نعمل على ضبط هذه الإشارات بالقدر الممكن، عبر انتقائنا في حياتنا اليومية كلمات ذات معان دلالية واضحة، واستخدامنا هذه الكلمات في سياقاتها الصحيحة، المتوافقة مع الحالة العاطفية. على سبيل المثال: للتعبير عن الشعور بالمحبة لا بد من استخدام كلمة تشير لهذا الشعور بشكل مباشر، وربط هذه الكلمة بسلوك حركي يتوافق معها وهو الاحتضان أو الابتسامة.
للأسئلة دور مهم في تعليم الطفل، فهي تثير فضوله وتحفزه على معرفة المزيد، وكل إجابة هي باب آخر لاستلهام سؤال جديد، إنها سلسلة غير منقطعة تأخذ الطفل في عالم يتسع فيه إطاره المعرفي. ولكن، هل كل الأسئلة تصلح للطرح على الطفل؟
"كل شيء يحتوي على نقيضه في صميم تكوينه"- هيغل
بالنظر للموضوع من زاوية أخرى، نجد أن السؤال بحد ذاته قد يعمل على تأطير نطاق تفكير الطفل حينما يضعه أمام خيارات محدودة للإجابة، فأنت حينما تسأله: "بتحب ماما ولّا بابا؟" تكون قد وضعته أمام مفاضلة لا مناص منها، تماماً كالمحقق الذي يضع المتهم أمام مسلمات أولية تفيد بأنه القاتل فيكون السؤال: "أين وضعت أداة الجريمة؟" وبمجرد الإجابة هو يفيد بأنه قد ارتكب الجريمة بالفعل. والطفل هنا عند اختياره أحد والديه تترسخ في ذهنه قاعدة تفيد بأن الحب غير قابل للتوزيع بالتساوي. ومن يطرح هذا السؤال هو في الواقع يمارس دوراً سلطوياً في إلزام الطفل بمحبة أحد الوالدين أكثر من الآخر. والأمر يتعدى ذلك بمراحل، هو أيضاً هنا يفرض عليه نمط التفكير الثنائي!
التفكير الثنائي (Dichotomous thinking) هو ميل الفرد إلى التفكير في ضوء المتناقضات الثنائية "الأبيض والأسود"، "الخير والشر". وهو أسلوب بدائي في التفكير، فحينما كان الإنسان يعيش على فطرته الأولى، كان عليه تضييق نطاق الخيارات لاتخاذ القرارات بالسرعة الكافية وتجنب المخاطر، وقيمة هذا التفكير كانت تتمثل بعدم الحاجة للكثير من المعطيات لبناء الأحكام، وهو ما كان مفيداً للبشر للبقاء على قيد الحياة.
الحقيقة ليست مطلقة
نحن في الواقع نعيش في عالم تنساب فيه المفاهيم وتتحول فيه الأفكار تبعاً لسياقاتها المتغيرة، الثابت الوحيد هو حالة التغيير المستمر. وبالتالي لا يصح الاستسلام للأفكار المعلبة والمطلقة، فلا شيء صحيح تماماً، ولا شيء خاطئ تماماً. الحقائق متعددة الأوجه. بين الأبيض والأسود هناك منطقة رمادية، وللرمادي درجات متعددة. الحياة أكثر تعقيداً والخيارات أكثر اتساعاً، ولا مانع في أن نرهق عقولنا في سبيل أن نفهم الحياة بشكل أفضل.
الحقائق ترتبط بالإطار المرجعي الجمعي، كالمعتقد واللغة والثقافة. وبالتبعية، الأفراد الذين ينتمون للجماعة يكون عليهم اتخاذ هذه الحقائق مسلمات، إلّا أن الفرد قادر أيضاً على تكوين ذاتية خاصة تمكنه من تجريد الحقائق بمعزل عن قدسيتها، وإعادة قراءتها في ضوء الرؤى المستقبلية، فالفكر الجمعي ماضوي بالضرورة، والفكر الفردي يمكنه أن يكون تنويرياً.
في البدء يولد الإنسان على شكل فكرة في عقل والديه، ويموت ليبقى على شكل ذكرى في عقل ولديه.
عند ولادة الطفل لا أحد يدري على وجه اليقين ما المسارات التي سيسلكها في حياته، والاحتمالات تكون لا حصر لها، إلا أن هذه الاحتمالات تتقلص بفعل عوامل ذاتية ومجتمعية، يزداد تأثيرها بازدياد سنوات عمره، ليصل معها في نهاية المطاف إلى الحدود الدنيا وإلى الاحتمال الأخير، وهو الموت.
مهمة العائلة تكمن في الإبقاء على أكبر قدر ممكن من الفرص والاحتمالات متاحة أمام أبنائهم، لأطول مدة ممكنة، عبر الحفاظ على سويتهم الجسمانية والنفسية، وتزويدهم بأدوات التفكير السليم والاستقراء والاستنباط بالشكل الذي يمكّنهم من استغلال الفرص والخوض فيها بكفاءة وفاعلية عالية. لا يصح أن يستخدم الفرد في تعامله مع المعطيات آلية الإقصاء والفرز الثنائي، فهو بذلك يضيع الفرص الممنوحة له في حياته.
إلى ابنتنا الحبيبة.. إن سألك أحدهم هذا السؤال، قولي له: "بحب بابا وماما".