لن يسقط النظام ولن تنهزم المعارضة!
لن يسقط النظام حالياً كما لن تنهزم المعارضة، تلك قاعدة راسخة من قواعد التحكم العالمي، أو ما أسميه بـ"الذلقراطية" العالمية، تبعاً لما كان قد أطلقه المفكر المغاربي المهدي المنجرة رحمه الله تعالى.. بل وستظل الجروح المفتوحة للنظام والمعارضة تنزف وتستنرف الجميع ضمن سياسة الذلقراطية العالمية (إضرب الكل بالكل ثم تلاعب بالكل).
وسيظل الشعب المسكين يتألم، وسيظل الكبار يشاهدون الدم دون أي تعاطف. كما لن تحصل مصالحات حقيقية بين الجماعات السياسية السورية، لا بين النظام والمعارضة، ولا بين المعارضة فيما بينها، على المدى المنظور.. لأسباب في مقدمتها:
أن القرار خارج يدها وهي تخضع لإملاء الممول، وأن هذه الجماعات تستمد قوتها من كيديتها لجماعة الممول الآخر. وأن المشهد السياسي السوري بات بيد القوى العظمى التي ادعت أنها جاءت تحرر سورية من القوى المتطرفة، فتحولت إلى محتل، توظف السوريين وفق أعداد البيادق المأمورة والبنادق المأجورة. وأن تلك الدول المشغلة لهذه الجماعات تغذي الاختلاف، بل والشقاق.. وأن الإطاحة بالنظام السوري قرار دولي وليس إرادة شعب، وأن تلك الدول تتلاعب بالجميع معارضة ونظاماً.
كما تم تمييع القضايا المتفق عليها، فلا يوجد إجماع على قضية واحدة جوهرية إلا السباب المتبادل واللعن المتواصل وصيحات الدم والقتل والثأر، كما تم تسييس قضايا المظلوميات التي حلت على الشعب السوري، فلا تعاطف بين السوريين، بل هناك قطيعة حدية، حيث يجف الشعور تبعاً للمصلحة والألم، فما وقع لأهالي عفرين أو درايا أو الغوطة الشرقية ليس جرحاً مشتركاً، ولا يعرف سببه الحقيقي، ولا حتى من وظف ذلك كله.. والبعض يشمت، بل ويبرر.
لا توجد قيمة متفق عليها، ولا قامة محترمة، وحتى الشخصيات التي أثبتت تقدمها على المشهد السياسي ما زالت لا تحظى بدعم دولي، بل بتغييب وعدم محوريتها.
أصبح العلم أيضًا ثلاثة: ثورة وكرد ونظام، وصار التحيّز المسبق المطلوب التخلص منه تحيزين: تحيّز لصالح الطبقة المُمول، وتحيز لصالح الجماعة الطائفية أو القومية
وفي المقابل، ظهرت طبقة متحكمة بالإعلام وبمراكز مفصلية، لا تتمتع بصفة الوطنية التي تعني تغليب المصلحة العامة على مصالح الجماعة والمصلحة الشخصية، كما برزت طبقة ممن أسميهم: (يثيرون الضوضاء من أجل الأضواء)، حيث تكسب رضا الناس عنهم وتجعل نوازع وأمراض الحروب وتطرفات المتطرفين هي الأصل، وتغازل الجهل بغية تحصيل نجومية، حتى لو كان ذلك على حساب تفخيخ العقول وتحويل المجتمعات إلى خنادق.
وبسبب غياب الوعي العام والعزوف عن المصالحة، وتصعيد الخصومات بين الجماعات السياسية، والتنافرات التي ترعاها الدول، انقسم السوريون إلى "مـتأمرك ومستترك"، ومع النظام، وظلّ هذا الانقسام حاضراً اليوم بين تابع للنظام بسبب الإكراه أو للمصلحة أو لعدم قوة المعارض للنظام.
وثنائية الوعي بين عربي مستترك وكردي متأمرك لم تتوقف عند هذا الحد، بل تشظت، ومن ثمّ انقسم السوريون المستتركون إلى قسمين: جماعة الائتلاف وذويهم ومن يعيشون تحت الوصاية التركية في مناطق في الشمال السوري، وكذلك الكرد بين موالين للإدارة الذاتية التي تدعم أميركياً، وبين كرد يتبعون الأوامر التركية.
وصارت الحرية حريّتين، حرية على الطريقة التركية وحرية على الطريقة الأميركية، والديمقراطية والتسامح نوعين: النظام يتسامح مع الإيرانيين والروس والأعداء التقليديين، ولكنه بلا رحمة وبلا تسامح مع شعبه. وكذلك المعارضة، قد تتسامح وتتحاور مع النظام، لكن لا يمكن أن تتفق فيما بينها، وخير مثال العلاقة الشائكة مع الإدارة الذاتية التي ما زالت يعبر عنها وفق الماكينة التركية.
وأصبح العلم أيضًا ثلاثة: ثورة وكرد ونظام، وصار التحيّز المسبق المطلوب التخلص منه تحيزين: تحيّز لصالح الطبقة المُمولة، وتحيز لصالح الجماعة الطائفية أو القومية.
وقُرِئت الثورة اليتيمة: قراءة رافضة، وقراءة حيادية أو مترقبة أو مبررة، ووصل العبث بالثورة إلى منتهاه على يد كلا الاتجاهين، إذ قرئت الثورة حسب كلّ فريق على هواه ليستخلص منها ما يناسبه، ويترك ما عدا ذلك.
أمّا الغرب، فقد أعلن تأييده للنظام وتعاطفه مع الشعب في الوقت نفسه، ومن ثمّ أصبح التناقض سيد المواقف، وتحوّلت نظرة الدول إلى ثورة الشعب السوري إلى نظرة حولاء، حيث اخترلت القضية بمسائل مطروقة من إدانات ومعابر ومخيمات ومساعدات ولاجئين، وتعمق بذلك التجاهل وعن قصد لجذر المشكلة وتعمق القصور الفادح، في الممارسة الدولية وفي سلوك النظام، ونشأت أمراض الحرب، ونتج عن ذلك خضوع الشعب السوري لعملية مستمرة من الإهانة ومن غسيل المخ عن طريق وسائل الإعلام التي طوّرها النظام الرسمي، وقنوات المعارضة في غالبها، كما ساعد كل ذلك على بروز ردات فعل في هذا الاتجاه.
لقد اعتقدت بعض النخب أن مشكلة الشعب السوري في تنظيم انفصالي كردي، بينما انشغل آخرون في شتم الإخوان المسلمين، وتطوع فريق لإعلان الموت للثورة، وقلة من النخب من سلكت أن جذر المشكلة في ارتهان الإرادة السورية وعدم استقلالية القرار السياسي السوري، وأن مسألة العجز والوهن العام هي ذاتية ومكتسبة وأيضاً مخطط لها، وأن الرهان الحقيقي هو على نسج بناء الفضاء الاجتماعي، وأن مواجهة التابعية السياسية دين ووطن وخلق وقومية.
ورحم الله زرداشت الذي قال: "احذروا كل مَنْ كان لغريزة الانتقام سلطانٌ عليه! طائفة من نوع وأصل رذيليْن هم هؤلاء، وعلى صفحات وجوههم تلتمع نظرة الجلاد وكلب الصيد. لترتابوا من كل أولئك الذين يُكثرون من الكلام عن عدالتهم".
صحيح أن من يخضع لتركيا ومن يخضع لأميركا قدّما تشخيصين مختلفين لوسيلة تحقيق الثورة، كما قدّما تفسیرین مختلفين للراهن، ولكنهما اتفقا على تحديد الهدف وهو معاداة النظام، ومن هنا، وعلى الرغم من الغواشي المفروضة على الشعب السوري، يتوجب على الجميع معارضة وشعباً تغليب الاجتماعي على السياسي، والوعي على العاطفة، والمجتمع على الجماعة، والإنسان على كل اعتبار آخر..
أي أن نعود إلى سورية الأم كما يقول الأستاذ أحمد معاذ الخطيب. ومن غير هذا، فلن يصدق علينا إلا القول الشامي الدارج: "تيتي تيتي مثل ما رحتي متل ما جيتي"، سنحكم بأحفاد بشار.