"أوكرانيا لماذا الحرب"؟... كلمات من أحد ضحاياها
ليس من رجل قارب الخمسين من عمره إلا أن يكفر بالقتل والحرب ناهيك أنني واحد من ملايين السوريين الذين خبروا معنى المافيا السياسية والحرب التي لا ترحم منذ عام 2011، وها أنا أعيش في منفاي أبحث عن وطن للإيجار، بعد أن سرق لصوص الدمار ذاكرتي، ومحوا ذكرياتي، واحتلوا أرضي، وسفحوا دمي، وغيّروا جغرافيا وطني، إنني تماماً كما قيل في الشعر المغنى:
نفيت وأستوطن الأغراب في بلدي .. ودمروا كـل أشيائي الحبيبات.
تشير الدراسات إلى أن من بين السنوات الواحدة والعشرين بعد الثلاثة آلاف والأربعمائة سنة الأخيرة من التاريخ المسجل، لا توجد سوى 268 سنة بغير حرب.
وقد قال هيروقليطس إنّ "الحرب هي أبو كل شيء". فالحرب، أو المنافسة، أبو كل شيء، وهي الأصل الفعّال للأفكار، والمخترعات، والمؤسسات، والدول..
إنني كمدافع عن حقوق الإنسان انخرط في العمل الحقوقي أجد أنّ أحلامنا في السلم تكاد تتبخر، على الرغم من انتسابي إلى دين يحول دون تحقق الأسباب التي تحرّض على الحروب، بل ويمقت كلّ مبرراتها ويستبعد أي مسوّغ لها، حتى لو كان مبعثه الاختلاف الديني أوالقومي، فاختلاف الأديان فطرة والتنوع القومي واقع، و"الإسلام يعترف أنّ الناس كلهم من أصل واحد، وأنهم خلقوا من نفس واحدة، ويستبعد الحروب التي تُثِيرُهَا المطامع والمنافع، حروب الاستعمار والاستغلال، بل يعتبر الكون كله وحدة واحدة غير متنازعة الأهداف، وهو يأمر بالتعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان. ويحرّم السلب والنهب والغصب، كما يستبعد الحروب التي تثيرها حب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال، أو حب المغانم الشخصية" (ملخص كتاب السلام العالمي والإسلام)، ومع هذا كله فما زلنا نعاين ونعاني الدمار في العالم.
عندما تقرع طبول الحرب فلتذهب الأخلاق إلى الجحيم
في بلدي سورية نعيش الحرب وأهوالها.. حرب بالوكالة وحرب يتزعمها الروسي الذي لا يرحم بعد أن تحالف مع المتناقضات، فهو الشريك للإيراني والنظام السوري، وهو الحليف القوي للنظام التركي المناصر لبعض أطياف المعارضة في آن واحد، هل تصدق هذا؟ نعم فقط في ظل الحرب يجتمع المتناطحون ويتقارب الأعداء.
والحرب مصطلح بشع لتعريف الجهل مع الظلم والدم مع الاعتداء وشرعنة الحرام باسم المبدأ والحرية، وحقوق الإنسان، والدين والتاريخ. ولا سبيل لمعرفة تاريخ إيقافها وعلاج جراحاتها.
ليس في هذه الحرب غالب ومغلوب، بل مغلوب ومغلوب، ولن تحل المدافع وطبول الحرب الطويلة أياً من المشكلات المطروحة على طاولة المنطق والحكمة..
لقد علمتني الحرب في سورية التي يتزعمها النظام وتحالفاته الدولية أنّ العنف والتخلف والهمجية التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم، ليست حكراً على شعب ولا ثقافة، وأنّ العنف لا يرجع لعرق أو لثقافة أمة تاريخية، وإنما لظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية راهنة دائماً. حتى في ظل ثقافة عقلانية وسيطرة القيم الإنسانية التحررية، يمكن أن ترتكب أعمال عنف لا يدرك عنفها وهمجيتها القائمون بها، وهذا ما يلزمني أن أقول: دعونا نوقف الحرب أي حرب ونعمل على منع تحميل مسؤولية أزماتنا وعنفنا الحاضر وخرابنا لثقافتنا التاريخية ولأسلافنا الأموات، متى سنكبر ونتحمل نحن مسؤوليتنا كراشدين؟
إنّ قرار الحرب هو ما يحجب عنا إدراك الحقيقة الذهبية وهي أنّ ما سنعيشه في المستقبل إنما هو نتيجة قرارنا اليوم نحن أجيال الحاضر، وما أقمناه من بنى وهياكل ومؤسسات فاسدة ومنتجة للعنف بمقدار ما هي قائمة على مبادئ وقواعد فاسدة. إنّ الحرب ليست نزهة، ولكن بفعل المتلاعبين سوف تتحوّل إلى مسلسل مشوّق في بدايته ولسوف يكون مملاً رغم درامية الأحداث وفجعائها.
أنصح كل من يحمل عود ثقاب في مجتمعه أن يرميه، فالخروقات التي ستقع ستوحش كل مسالم وتدمر كل مدني، ولا يظن أنّ الجرائم التي ارتكبها صناع الحرب لا تقل عن خروقات من قبل من سيواجهون تلك الحرب حتى وإن لم تحظ بالإدانة الكافية أو المطلوبة، وذلك لارتهان المعارض والسلاح للممول الذي يمنع فكرة التلاحم الوطني، وفي سورية خير مثال، حيث تحول المسلح إلى بيادق مأمورة وبنادق مأجورة للجميع.
لقد عايشتُ الحرب وأدركتُ أنّ ما وقع من تطرّف أو انتهاكات وعنف ومجازر باسم الثورة السورية بحاجة إلى تحقيق وتوثيق وتدقيق ولنقاش أكثر تفصيلاً في نظري، ولا يكفي لفهمها والاستفادة من تجربتها وتجاوز أخطائها البقاء في خانة التشهير والإدانة، بل لا بد من عدم الاكتفاء بذلك فهذه سطحية والأمر أعمق وذلك للآتي:
- التسليح كان قراراً خارجياً سوف يجبر الداخل على الولوج في أزمته.
- العسكرة سبقت المعارضة بكثير، وكانت من ورائها دول وهذا يدعونا للتركيز.
- لم تعرف المعارضة كيف ومتى تدخلت الدول الداعمة للسلاح في الشأن السوري أصلاً، وهذا يعني أنّ الإرادات الدولية دفعت النظام والداخل للمواجهة العسكرية.
- الدول التي ترعى المليشيات أو تقدم السلاح منذ أشهر طويلة سابقة لم تقدم على أي استشارة لمعارض أو قيادي.
- في الوقت الذي كانت فيه فصائل المعارضة السياسية تتخبط وتتنازع وتتقاتل في ريف دمشق وغيرها دون أن تنجح في توحيد كلمتها ولا صفوفها، كان الدم يسيل في شوارع وساحات سورية كلها.
- التمحور حول إسقاط النظام غطى على كل شيء آخر وخدّر الشعور الأخلاقي عند الكثيرين.
لكن لا أعتقد أنّ من الممكن لوم الثوار، من أبناء الشعب الذين وصفتهم بأنّ أكثرهم لم يكن لديه ثقافة أو خبرة سياسية، على ذلك، أمام ما تعرضوا له من فظائع فيما ينبغي تسميتها "حرب الإبادة" التي شنها النظام منذ البداية على النشطاء ثم على الشعب بأكمله، بمدنه وقراه وأحيائه.
في سردياتنا التاريخية وتحديداً في عام 1931، دعا معهد التعاون الفكري التابع لعصبة الأمم ألبرت أينشتاين إلى الانخراط في تبادل متعدد التخصصات للأفكار حول السياسة العالمية والسلام، وطُلب منه اختيار شخص لمحاورته فاختار عالم النفس الشهير سيغموند فرويد.
تكشف المراسلات القليلة المعروفة بين هذين العالمين عن بعض أفكار أينشتاين حول الحرب والبشرية والسياسة العالمية.
بدأ أينشتاين رسالته إلى فرويد برثاء حال المثقفين على مرّ العصور، والاعتراف بحقيقة أنّ "غالبية النخب هم من الأوغاد، والمتربحين وأصحاب المصالح، والمؤدلجين وبعض الحمقى"، وهذا التوصيف صحيح لتلك الفترة وقد يصلح لهذا العصر أيضاً. ويستشهد أينشتاين برجال مثل السيد المسيح وغوته وكانط ويشير إلى احترام وتقدير العالم لهؤلاء القادة الروحيين والأخلاقيين رغم ضعف تأثيرهم المباشر على المسار الإنساني.
إنّ المثقف الحيادي ليس بمثقف وكما يقول أستاذي المناضل هيثم مناع "من الضروري شجب الاعتداء العسكري الروسي على أوكرانيا، ولكن أيضاً، إعطاء السلام فرصة". نحن بحاجة إلى عقلاء مؤمنين بأنّ الحل العسكري للقضية الأوكرانية "وهم"، وأنّ احتلال أوكرانيا أو تنظيم المقاومة الشعبية فيها انتساب واسع لعملية الوهم المنتجة للدمار والضحايا.
لدى كل الأطراف من الحجج والذرائع ما يدعم مواقفها. لكن هل هو العشق المفرط "للأهل والأخوة" ما يحرك القادة الغربيين؟
حرب نظيفة!
ليس في هذه الحرب غالب ومغلوب، بل مغلوب ومغلوب، ولن تحل المدافع وطبول الحرب الطويلة أياً من المشكلات المطروحة على طاولة المنطق والحكمة.. الدم الذي سيراق أولاً دم أوكراني وروسي، وإعداد قوائم بجرائم الحرب لن يخفف عدد القتلى.. شيء وحيد لا يمكن تغييره، هو الجوار الأوكراني الروسي.
فيمكن لمواطني البلدين الطلاق من زوجاتهم بقرار إداري بسيط، لكن لا تسونامي ولا الحروب تستطيع تغيير جغرافيا الجوار. بتعبير آخر، الثمن الحقيقي في حروب الجيران، يدفعها شعوب البلدين أولاً وأخيراً.
ومهما صفق الآخرون أو ذرفوا من الدموع، فلا يستحقون أكثر من صفة "المتفرج المشبوه". هذا ما ينساه كل من شارك في تأجيج الحرب (العراقية - الإيرانية)، كما ينسون أنها كلفت مليونًا ونصف مليون ضحية من الشعبين.
لسنا بحاجة أبداً، لأن يقال بعد سنوات، لقد كنتم على حق، فهذه الجملة لم تمنع وقوع المحرقة السورية قبل الأوكرانية. فلتسقط الحرب وكل راياتها.