لا تدع هاتفك يكون أذكى منك

19 سبتمبر 2024
+ الخط -

لا لم أُصب بأيّ أذى. لست طبيبة، ولا ممرّضة، ولا مسعفة، ولا مقاتلة، ولا أحتاج جهاز نداء. كما أنّي لم أكن بقرب أيّ أحد من هؤلاء حين نفّذت إسرائيل هجوميها السيبيراني أمس وأمس الأوّل ضدّ آلاف اللبنانيين، وهم يظنون أنّهم آمنون في منازلهم ومكاتبهم وأماكن عملهم. 

كلُّ ما لديّ، كما كل الناس، هاتف "ذكي"، يستطيع أن يتحوّل كما بدا واضحاً أمس، وفي لحظةٍ، من صديقٍ يُعينك على مهامك ويسهلها لك، إلى سلاحٍ في يد عدو يملك التحكّم به عن بعد. ليس بالدرجة التي كنّا نعرفها أو ندركها فقط، أي كأداة لتجميع الداتا والمعلومات والتنصّت، لكن كسلاح قاتل بشكلٍ مباشر، باستطاعته اقتلاع أصابعك، أو ذراعك، أو كليتك، أو عينيك، كما فعل لمئاتِ اللبنانيين في اليومين الماضيين.  

كنت أتناول طعام الغداء حين وقع الخبر من الشاشة على أرض الغرفة. جلست مذهولةً أمام شريط الأنباء العاجلة التلفزيوني، أحاول استيعاب ما يحصل. سرعان ما توالى طنين الهاتف معلنًا وصول سيل من الرسائل: تارة للاستفسار عن الأمان من العائلة، والأصدقاء، خصوصًا أولئك المقيمين في الخارج، وتارة أخرى لضخِّ شائعات تداولها الناس في لحظةِ ذعرٍ وريبةٍ، عن انفجار بطاريّات الليثيوم في المنازل التي تشكّل جزءًا من منظوماتِ الطاقة الشمسيّة، أو باللابتوب المنزلي، وتارة أخرى على شكل رسائل صوتيّة تحذّر من فتح روابط تصل عبر الواتساب لأنّها ستفجّر الهاتف الذكي الذي تحمله، مختلطةً بتحذيراتٍ من الاتصال للاطمئنان، ربّما على معارف ممّن لهم علاقة بالمقاومة أو حتى محيطها!

من يحكمون العالم لم يعودوا يكتفون بالتنصّت وجمع الداتا، بل أصبحوا يجرؤون على زرعِ أدوات التجسّس في أيّ من منتجاتهم التي نستهلكها

كلُّ ما فعلته وأنا أحاول هضم الخبر أن أطفأت الإنترنت. ثمّ أكملت طعامي. فُوجئت بمدى هدوئي. لا لم يكن هدوء اللامبالي بما يحصل، لكنّه نوع آخر من الهدوء، تذكرت أنّه كان ينتابني حين كنت فيما مضى أقوم بعملي كصحافيّة ميدانية أغطي الحروب التي لا تُحصى، والتي شنّتها إسرائيل على بلادي. هدوء من يدرك، مرّة جديدة، أين هو، وماذا يفعل، وما الذي عليه أن يهتم به أو لا يهتم، أن يقوم به أو لا يفعل. 

أكملت طعامي مع أنّ شهيّتي اختفت تماماً. صار الأكل مهمّةً في حالةٍ طارئة. كمن يحشو فمه بما يجب أن يحشوه به لكي يستمرّ ويستطيع القيام بعمله. كمن عاد وتأكّد مرّةً أخرى أنّه يعيش حياة غير عاديّة، حرباً ينساها أو يتناساها من حين لآخر من أجل صحته النفسيّة، لكن سرعان ما يذكره بها كلّ شيء. تماماً كما ذكرنا الهجوم السيبيراني الإسرائيلي بأنّه علينا أن نحذر التكنولوجيا، ومن المدى الذي من الممكن أن تصل إليه إن أُتيح لها، بأموالنا كمستهلكين، وبقلّة اكتراثنا بما يمكنها أن تصل إليه عمياناً أو متعامين، التحكّم بنا. 

استخفت الشعوب المستهلِكة مثلنا، والتي يغريها اللحاق بالتقدّم عبر بذل أقل الجهود، أقصد "الجهد الاستهلاكي"، استخفت بدورها كثيرًا في حروب الداتا المندلعة منذ عقود. وما هذا الاستخفاف إلّا مظهر من مظاهر تحقير الذات والتقليل من قيمتها، مقابل تعظيم "العالم" المتقدّم تقنياً عبر تصويره غير مبال بمعلوماتنا، نحن الذين لا نؤثّر عليه بتاتاً، كما يزعم الكثير من الكسالى.

استخفت شعوبنا في حروب الداتا المندلعة منذ عقود. وما هذا الاستخفاف إلّا مظهر من مظاهر تحقير الذات والتقليل من قيمتها

كان أحدنا (أحدهم) يقول: وما الذي يهمّ الولايات المتحدة الأميركية أو أوروبا بعظمتهما من معلوماتي الشخصية؟ "مين فاضي لي"؟ وبشكلٍ أخطر، كلّما أثيرت قصّة السيادة الرقميّة، أو جرت الإشارة إلى خللٍ في استيراد الأنظمة التكنولوجية وتقنيّات الاتصالات، كما في لبنان، كانت جوقات الكسالى وكارهي أنفسهم ومواطنيهم، إن لم نقل المتآمرين، تنبري للتسخيف.

هكذا وصلنا إلى حالنا الرث هذا.

واليوم استيقظنا على عالمٍ جديد: عالم تبيّن للجميع فيه أنّ من يحكمون العالم، إن كان بشركاتهم أو بجيوشهم، لم يعودوا يكتفون بالتنصّت وجمع الداتا، بل أصبحوا يجرؤون على زرعِ أدوات التجسّس في أيّ من منتجاتهم التي نستهلكها.

 أي أنّنا ندفع بأنفسنا أجر تجسّسهم علينا، ونفتح لهم الطريق للتحكّم بحيواتنا ومصائرنا. 

لقد ثبت للجميع أنّ الأمر ليس بحاجة إلّا للحظةٍ لتدمير كلّ شيءٍ، بما في ذلك ما بنته حتى اليوم الشركات الكبرى في تأكيدها، ولو لم نكن نميل إلى تصديقه، على صيانة المعلومات الشخصيّة وقدسيتها وعدم استخدامها ضدّنا. 

هذا العمل ليس فقط إرهابيًا تخريباً موصوفًا ضدّ لبنان، هذه "نيران صديقة"، أطلقتها إسرائيل على مستقبل الشركات الكبرى التي تمثّل هي بنفسها قاعدة هامة لحماية مصالحها.

هل ستتأثر كلّ تلك الشركات ممّا حصل؟ وكيف لا تتأثّر؟

ندفع بأنفسنا أجر تجسّسهم علينا، ونفتح لهم الطريق للتحكّم بحيواتنا ومصائرنا

من الذي سيضمن لأيّ زبون كان، أن لا ينفجر كومبيوتره أو آيفونه، أو أيّ منتج آخر من الممكن للموجات الصوتيّة، أو ما فوقها، أو مثيلاتها المُتحكّم فيها عن بعد أن تؤثّر فيه؟ 

أحد الأصدقاء أرسل لي اقتباساً عن شركة "تسلا" الرائدة في مجال الطاقة: "إن أردتم معرفة أسرار الكون؟ فكروا بالطاقة بالموجات والذبذبات".

طبعاً الخبراء بالتكنولوجيا سيكونوا أقلّ حذرًا لأنّهم أكثر معرفة، لكن الجهل التكنولوجي للمستهلكين، ربّما ولمرّة، سيفيدنا. وذلك عبر التفكير أكثر من مرّة لدى اختيار هواتفنا وكومبيوتراتنا، وفي الحذر من منتجات الشركات غير الصديقة كما أثبتت لنا. 

بالطبع إن كان الجميع على درايةٍ تكنولوجيّةٍ عالية تتيح لهم الاختيار سيكون الأمر رائعاً.

ففي النهاية، بإمكانك أن تستمتع بالتقدّم التكنولوجي لهاتفك الذكي شرط أن لا يكون، هو، أو من يتحكّم به، أذكى منك. وهذا للأسف حتى اليوم هو الواقع.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى