اقتضى التصويب
في المسلسلِ المصريّ الشهير "رأفت الهجان"، والذي لا تتعب القنوات المصريّة الحكوميّة من إعادةِ بثّه بموازاةِ مُواصلة السلطاتِ تعميق التطبيع مع العدو، لعبت المُمثّلة، تهاني راشد دور "سيرينا آهاروني"، وهي شخصيّة عامة في بداياتِ الكيان، وعلى ذمّة الكاتب، فاعلة جدًّا في "نقابة الهستدروت". كانت تلك المرّة الأولى التي أسمع فيها بهذه النقابة. فضلًا عن ذلك، كانتْ آهاروني شخصيّة إيجابيّة إلى حدِّ ما في المسلسل، لأنّها كانتْ عقلانية، انتقدتْ وعارضتْ من كانت تصفهم بـ"العصابة" في السلطة التي لا تريد إلّا الحرب، كما نظرت إلى عدوّها الذكي جمال عبد الناصر باحترام، وفي كلِّ ذلك، كانت مثال الإسرائيليّة المُخلصة لبلادها.
ما ذكرني بآهاروني اليوم، هو، إضافة لِما تردّده المعارضةُ الإسرائيليّة عن رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الذي يريد تأبيد الحرب، هو وعصابته من المتطرّفين، عودة "الهستدروت" النقابة العماليّة التاريخيّة الأشهر في إسرائيل، إلى الضوء. خصوصاً في سياق الإضراب الذي دعت إليه منذ أيّام، واستجاب لها حسب الوكالات، ما بين ربع وثلاثة أرباع المليون إسرائيلي، قبل أن تنهيه المحكمة بقرارٍ قضائي. لم أكن مهتمة بقراءةِ تاريخ هذه النقابة القديمة قِدَم الكيان، والتي يبدو أنّ نتنياهو، حسب ما فهمت أخيراً، أضعف قوّتها بسلسلةٍ من السياساتِ والتشريعاتِ على مدى عقود، ما جعل عدد المنتمين إليها يتراجع من حوالي مليون ونصف المليون إلى مجرّد مائة وخمسين ألفا حالياً، حسب الموسوعة الفلسطينيّة.
لكن، ما مَثَلَ في وعيي فجأة، هو ذلك التناقض بين ما كان راسخاً في هذا الوعي من معانٍ لكلمةِ نقابة، بما هي نضال لأجل انتزاع حقوق العمّال ومساواتهم ببعضهم، وبين ما اكتشفت أنّ "الهستدروت" تمثّله فعلياً، والتي لعبت دوراً فائقَ الأهميّة في تأسيسِ الكيان. تناقض مفاهيمي بين مؤسّسة، من المفترض أن يكون مرجع وجودها، حقوق الإنسان، خصوصاً المضطهدين من قبل ربِّ العمل ورأس المال، وبين واقع ممارستها الفعلي بما هو كيان مُساعد بقوّةٍ لاحتلالِ أرضِ عمّالٍ آخرين واضطهادهم وسلب حقوقهم المشروعة، وحتى تهجيرهم وإبادتهم لإحلال عمّال مستوطنين مكانهم.
كيف تكون "الهستدروت" نقابة بما هو تعريف النقابة الحديث، وفي الوقت ذاته تضطهد العمال الفلسطينيين؟
كيف تكون "الهستدروت" نقابة بما هو تعريف النقابة الحديث، وفي الوقت ذاته تضطهد العمال الفلسطينيين؟ لا أقصد فقط الوافدين إليها للعمل من مناطق السلطة والقطاع، لكن أولئك الذين فرضت عليهم هويّتها منذ النكبة، وأصبحوا "مواطنين" من الدرجة الثالثة؟ لا بل إنّي فهمت من مراجع تتحدّث عن تاريخها، أنّها تفرّق أيضا بين اليهود أنفسهم: أشكناز وسفارديم، شرقيين وغربيين! كيف تدافع عن حقوق العمال ليس بما هم طبقة، بل بما هم يهود، ومن أصول مُصنّفة أدنى من أخرى؟ أي على أساسٍ دينيٍّ وعنصري.
لقد بَدَتْ لي إسرائيل في الشهور الرهيبة الأخيرة كما لو كانت آلة ضخمة لصكِّ مفرداتٍ جديدةٍ، محشوة بمعانٍ تناقضُ المعنى الأصلي. آلة، مهما أدخلت في جوفها من "مقادير" معروفة نتيجة خلطتها، لا يخرجُ منها إلا ما يُخالفُ تلك المفاهيم والمصطلحات، لا بل ينسفها، بسبب عطلٍ تقني بنيوي أصيل فيها: واقعها كيان احتلال واستعمار.
يقول موقع "الموسوعة الفلسطينيّة" في باب "العمّال والحركة العمالية"، إنّ ما يسمّى "الاتحاد العام للعمال اليهود في فلسطين – الهستدروت" (تكوّن) ليتولّى مهمّةً مزدوجةً: تنظيم العمال اليهود نقابياً، ووضعهم في خدمة البورجوازية الصهيونيّة الصناعيّة الناشئة في فلسطين، متبعاً في ذلك سياسة تسوية طبقيّة واضحة، لا سياسة دفاع طبقي عن مصالح العمال اليهود كما يقول، وممّا يؤكّد ذلك طبيعة المشاريع التي أنشأها "الهستدروت"، ومنها صناديق المرض والعجز وشركات المقاولات وشبكات المصارف والتأمين، وهي كلّها مشاريع تقع خارج نطاق المفهوم النقابي الحديث، وتصبّ في الإطارِ السياسي العام للحركة الصهيونيّة، أي تحقيق الاستعمار الصهيوني لفلسطين. وقد تعاونت سلطات الانتداب البريطانية تعاوناً وثيقاً مع هذا المشروع الصهيوني، وخاصة في إطاره العمالي، وساعدته على الوجود والنمو والاستمرار، ونتج عن ذلك كلّه سياسة تمييز عنصري استعماري ضد العمال الفلسطينيين".
تفرّق "الهستدروت" بين اليهود أنفسهم: أشكناز وسفارديم، شرقيين وغربيين!
ويضيف التقرير "عبرت سياسة الهستدروت هذه (..) عن نفسها باتجاهين اثنين: الأول هو التحيز الدائم في دفع أجور أعلى لليهود الغربيين على حساب العمال العرب الفلسطينيين، بل على حساب العمال اليهود الشرقيين أيضاً. ففي عام 1944 مثلاً كان متوسط دخل الفرد العربي 160 جنيهاً سنوياً مقابل 300 جنيه سنويا للفرد اليهودي الغربي. والاتجاه الثاني هو إبراز "العمل اليهودي" و"الإنتاج اليهودي" على حساب العمل العربي والإنتاج العربي، وهي السياسة التي جسدها بن غوريون بقرارات رسمية صادرة عن مؤتمرات الهستدروت، وشكلت من أجلها فرق المراقبة والمساهمة الصهيونية، التي اقتضت بالضرورة فرض العقوبات على أصحاب المشاريع الصهيونيين الذين يشغلون عمالاً عرباً لديهم".
نعم. كلّ هذا. لقد وقعتُ بسذاجةٍ لا يمكن مسامحتها، في فخِ كلمةِ نقابة.
فهذه اللفظة لطالما أشعرتني بتضامنٍ فوريِّ مع كلّ ما يخصّ الطبقة العاملة بما هي مظلوميتها التاريخية في عالمٍ رأسماليٍ يزدادُ توحّشاً، لكنّي لم أكن أنتبه لتحوّل معناها حين يرتبط بكلمة إسرائيل، ليصبح نقيض نفسه.
أعترف بأنّي وقعت في الفخ. فقد كنت ولا أزال، أحبّ كلّ ما هو جماعي، ويسحرني اجتماع البشر لعملٍ أو مساهمةٍ في تقدّم البشرية وسموها، إن كان بالفن أو النضال. لذا أُغرمت دوماً بغناء الكورال على أنواعه. وكلّما كان ضخماً، كما في الإنشاد الكنسي مثلاً، زادت المتعة. حتى لو كنت لا أفهم لغته، كما في غناء "كورال الجيش الأحمر" الشهير. أُغمض عينيّ مستمتعةً بعزفِ الفرقِ الموسيقيّة السيمفونيّة الكبيرة، وأرمي نفسي، بالمتعةِ ذاتها، في المظاهراتِ، ولو لم تكن في بلادي، كما فعلتُ في سنواتِ دراستي في باريس أو في تغطيّة الثورة المصريّة. أحبّ مدرّجات كرة القدم، وأوّل ما أفعله في بلادٍ جديدة هو زيارة سوقها الشعبي لأنعم بذلك الشعور. وكما الجميع، أحبّ الأعراس، لكنّي أجد أيضاً الاجتماع للتعازي مؤثّراً، لدرجة تدمع لها عيناي بغضّ النظر عن قربي من الفقيد.
لذا، وبعد كل تلك الخيبة "الهستدروتية"، خفق قلبي بشدّة، مجدّداً، للخبر، على منصة "عرب 48"، والذي أرسلته لي صديقتي الفلسطينية أمس: "قرار سائقي الأجرة من فلسطينيي 1948 تكوين نقابة للدفاع عن مصالحهم".
أخيراً. هذه اسمها فعلاً نقابة، فاقتضى التصويب.